توجد في مجلس النواب العديد من اقتراحات القوانين التي تدعو لإقرار اللامركزية بصفتها بنداً من بنود وثيقة الوفاق الوطني. وينطلق النقاش من نقطتي اتفاق مفترضتين عند المؤيدين والمخالفين، الأولى تفادي الوقوع في مخاطر تهديد وحدة الدولة والمجتمع تأكيداً للنص الدستوري ونص اتفاق الطائف برفض كل أشكال التجزئة والتقسيم؛ والثانية أن اللامركزية إطار قانوني تنموي وديمقراطي عصري ومتفق عليه كواحد من عناوين وثيقة الوفاق الوطني.
النقاش يدور حول السياق الذي ينتج توقيت الذهاب إلى اللامركزية، خصوصاً في مناخات الاستنفار للعصبيات الطائفية، والحاجة لضمان الحصول على العائدات الإيجابية لتطبيق اللامركزية دون الوقوع في مخاطر منح المشاريع التفتيتية كيانات وأطراً تنمو ضمنها، فهل يكفي مجرد الانتباه لتقسيم الأقاليم الإدارية ومراعاتها لمعايير التعدد الطائفي لتحقيق عناصر الأمان؟
تقدم صيغة المحافظات الخمس والأقضية الحالية النموذج الأمثل للاختلاط الطائفي الممكن، وتطبيق فرضية اللامركزية عليها كمثال، ستظهر بسهولة أن المجالس المنتخبة ستكون في الأقضية والمحافظات ذات غلبة طائفية وحزبية، وأن الموارد والصلاحيات التي ستوضع بيد هذه المجالس لن تكون لحساب مشاريع التنمية وتعزيز الروح المدنيّة، بل ستكون أدوات لتعزيز هيمنة من لون طائفي وحزبي في كل منها، وبالتالي تعميق الانقسام وروح الكانتونات التي يلجمها اليوم نسبياً وجود سلطة مركزية موحدة، ورغم ذلك فقد شهدنا بحجم ما توفره بعض اتحادات البلديات في بعض المناطق أنواعاً من التسلط تستعيد مناخات الحرب الأهليّة، فكيف إذا شرعنت سلطات محلية على مستوى أوسع وبموارد وصلاحيات أكثر، يبدو عندها أن الحرب الأهلية البادرة التي يمثلها النظام الطائفي ستجد فرصة القوننة للتمييز الطائفي والحزبي باسم الديمقراطية، وسينتج عن التمييز الطائفي والحزبي الذي سيقع بحق الأقليات الطائفية والحزبية بكل من هذه الدوائر تأجيج مشاعر الكراهية والتعصب، وربما ينتج حالات تهجير وهجرة وفرز سكاني يعزز مسارات تقسيمية تعاكس ما أراده الطائف من التأكيد على تبني اللامركزية مع الرفض الكامل لكل شكل من أشكال التجزئة والتقسيم.
الخلاصة الأكيدة هي أن السير باللامركزية يعني فتح الباب لمخاطرة تقسيمية ما لم يأت في مناخ لاطائفي، يعقب الانتقال من النظام الطائفي، ونشوء مناخ وطني جامع يحاصر مناخات التعصب ودعاة التجزئة، ويحول اللامركزية إلى صيغة قانونية للتنمية وتطوير الخدمات والاقتصاد، لا وصفة للتقسيم والفرز والتمييز وربما الفتن المتنقلة.