الشعر الصامت وبلاغة الألوان في أعمال التشكيليّة ندى نادج
} طلال مرتضى*
ثمّة عوالم خاصة لا يمكن لاحد تجاوز اسوارها الشاهقة، قبل الالتفاف حول مكامن مفاتيحها المخبوءة ضمن متواليات متصلة منفصلة، متصلة بسلطة الدلالات اللونيّة العميقة بين مربع فني وآخر، ومنفصلة من حيث تباين الافكار المتبدلة والتحولات التي تسهم مخيلة المتلقي لالتقاطها ضمن كل اطار فني، ليصار إلى نسج خيوط مدلولاتها على شكل حزم قابلة للانزياح او المقاربة لتستحيل في نهاية المطاف القرائي إلى خطوط عريضة يمكن ان نستنبط منها قصص تقارب الواقع واستبطان ما تكنه تلك القصص التي تم بناوها في المخيال لتكون فاتحة اولية لفكّ طلاسم واكواد تلك العوالم. قبل فتح باب الكلام على مصاريعه والدخول إلى عمق المفاتن اللونية للتشكيلية البوسنية النمساوية ندى نادج لا بدّ من وقفة اولية ومتانية ليتاح للمتلقي ترتيب جدول حساباته القرائية والتي يصار من خلالها مقاربة انعكاس الروى مع واقع مرئي يمكن ملامسته او معايشته..
تتطلّب اعمال ندى نادج ذاكرة متقدة ونشطة قادرة على ربط مجموع الدلالات في حزمة واحدة لاستشفاف كل ما يدور من حراك على سطح القماش ورصد الاشارات المتحوّلة منها والثابتة بين كل بورة لونيّة إلى أخرى..
فلوحتها اقلّ ما يقال عنها عنيدة، فهي لا تسلم مفاتيح قيادها لمتلقٍّ عادي، بل تبحث عمن يجلي عنها كاهلها فالظلال المحيطة بعوالمها والتي تمتد إلى مساحات واسعة في محاولة منه لمحاصرة ينابيع الضوء التي تمت تعميتها عمداً. هذا ما يربك المتلقي الذي قد تتوه بوصلته القرائية ليذهب إلى التاويل الخاطئ والذي يتكئ به على دلالة اللون، وهنا يضيع المعنى الحقيقي، حيث يتم استقراء اللون الاحمر في موضعه من العمل على انه حالة احتضان لحبّ مشتعل مستقر في قعر اللوحة بحكم التراكمات اللونيّة الاعلى الذاهبة للقتامة والتي مزج الابيض مع محلول الاسود، وهنا يتجلى الكسر القرائي من حيث إن العاطفة الجياشة والحبّ في التشكيلات اللونية الفنية تذهب نحو الاعلى لتتحول من حال الطفو لخفتها ورهافتها الى حال الطمي الذي قد يغرق كل الهالات والشوائب ضمن مدارك اللوحة الفنية..
وهذا ما يجعلني اقول، ان مدلول اللون على سطح القماش لا يمكن ان تكون قراءته صحيحة الا بعد ان تتم دراسة تموضعه المكاني..
ثمة من يقول إن هناك كثيراً من العواطف والاحاسيس (الحب) تبقى مكبوتة ولا يستطيع الفنان تفجيرها او اخراجها علانية، بل يلجأ الى تركها في متون سطح القماش على شكل لطشات تخادع عين المتلقي يقوم هو بالاختباء وراءها، وهذا صحيح بالفعل، ولكن قبل ان نجزم بصحة هذا، اولاً علينا ان نحدد كل دلالات الالوان المحاذية والوقوف على معطياتها، فلا يمكن ان نسمّي احمر قانياً او فاتحاً، كثافة عاطفية وهو محاضر ضمن مدارات لونيّة لا تسمح للنور الوصول إلى نقطة ارتكاز هذا الاحمر.
بصراحة مطلقة اقول، ان قراءة التجربة الفنية لندى نادج هي اشبه بمخاض ما قبل الولادة. فالكشف السهل يضيع خطوط العمل التي قصدت وعن سابق علم على رمي فكرتها في بطن المربع الابيض والذي اشبهه بالرحم، لتترك للاخير حرية تاويل تلك الفكرة (ذكراً ام انثى). هذا بعد ان تغرقه بكثافات لونيّة تقوم بارباكه ارباكاً حقيقياً حين يحار في الانحياز والرضوخ لوجع المخاض (انبلاج الفكرة وجلاء تعميتها) وبين جمالية الولادة الجديدة التي تنحاز للضوء على حساب الظلال.
ندى نادج امراة مسكونة بعالم من المتناقضات الهواجس على مدارك لوحتها، فالوانها لا تشي بمدلولاتها المتعارف عليها، فيمكنها ان تتخذ من صفاء الاصفر حالة عاطفية جيّاشة ومن الاسود المسكون بظلامه انعكاساً ضوئياً يثري لوحتها قرائياً، كل هذا لتشكّل علامة فنية فارغة يتسم بها الخط الفني الذي تنتمي اليه، فهي بذلك اسست لنفسها منهجاً خاصاً قامت من خلاله بنقل كل اندفاعاتها وهواجسها من مخيلتها إلى سطح القماش، وذلك من خلال تلك التوزيعات اللونية المدروسة بدقة والتي تكنه في تفاصيلها أشياء لا يمكن ان يتفق عليها قارئ فنّي مع آخر، من باب ان كل واحد يتلمّس ارتداد دال العمل الفنّي وانعكاسه الضوئي عليه هو (اي الشخص القارئ) بوصف اللوحة هي المرآة التي يمكن ان يرى من المرء من خلالها وجه الذي لا يشبه اي وجه آخر.
وبإيجازٍ اقول، إن الافكار التي طرحتها ندى نادج والتي تلاعبت بدلالاتها ومعانيها لا تحتاج فقط إلى قوة بصر لفكّ شيفراتها بل لاعمال البصيرة أيضاً. وهكذا يستطيع القارئ الغوص عميقاً في المكامن للوقوف على الحالة التعبيرية الحقيقية والقبض نبض الفكرة والتي ستصير في ما بعد ملك يمين له.
بطاقة
الفنانة ندى نادج وصلت النمسا وهي في سنواتها الاولى، وعلى الرغم من صغر سنّها الا أنها استطاعت الاحتفاظ ببعض تصاوير حرب بلادها (البوسنة) والتي دفعت بها إلى هنا. شاركت في العديد من المعارض الفردية والمشتركة في اوروبا.
* كاتب عربي/ فيينا.