رياض سلامة وقانون النقد والتسليف (2)
غالب أبو مصلح
في الوقت الذي تنكّر فيه حاكم مصرف لبنان لقانون النقد والتسليف واستهدافاته، وضع للمصرف المركزي استهدافاتٍ وأولويات أخرى، مثل زيادة ربحية المصارف التجارية، ثم “مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب”، وما تبِع ذلك من “مكافحة الفساد والتهرّب الضريبي”، وبطلبٍ وإلحاحٍ من السلطات الأميركية.
إنّ استهداف المصرف المركزي لزيادة ربحية المصارف التجارية، هو غريبٌ من نوعه، ولا سابقة له في دول العالم. وهو يتناقض مع سياسات المصارف المركزية، التي تستهدف عادةً خفض كلفة الوساطة المالية، خدمةً لقطاعات الإنتاج الحقيقي. لكن الاستهداف الأول ينسجم مع النظام اللبناني، ذي البُنى الاحتكارية الشاملة، حيث تمثّل المصارف التجارية بنيةً احتكاريةً مسيطرة، منذ عهد الاستعمار الفرنسي للبنان. كان سلوك رياض سلامة يمثّل فعلاً توجّهات النظام القائم، المنبثق عن مؤتمر الطائف، وينسجم مع نهج واستهدافات السلطتين التشريعية والتنفيذية.
عُقِد مؤتمر الطائف بعد هزيمة قوى العدوان الأطلسي الأميركي – الصهيوني، وقوى النظام اللبناني الرسمي وميليشياته الطائفية الملتحقة بقوى العدوان. هُزِم العدوان على يد المقاومات الشعبية في بيروت والجبل والجنوب، بدعمٍ سوري وسوفياتي، إذ تحوّل لبنان إثر العدوان إلى ساحة صراعٍ إقليميةٍ ودولية. سبق انعقاد مؤتمر الطائف انهيار الاتحاد السوفياتي، لأسبابٍ غير عسكرية؛ كان للحرب الاقتصادية والمالية والتجارية التي قادتها الولايات المتحدة الأميركية ضدّ الاتحاد السوفياتي دور في هذا الانهيار، وذلك بعد هزائم المغامرات العسكرية الأميركية في العديد من دول العالم.
هيئة التحقيق الخاصة وأخواتها
اتخذت الولايات المتحدة، منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي، من قدراتها الاقتصادية والمالية، المدعومة بقدراتٍ عسكريةٍ طاغية (بعد انهيار الاتحاد السوفياتي)، أدواتٍ أساسية في مشاريعها العدوانية التوسّعية، لبسط سيطرتها على العديد من دول العالم. جنّدت الولايات المتحدة مؤسسات النظام الاقتصادي العالمي الثلاث (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومؤسسة الاتفاقية العامة حول الجمارك والتجارة GATT، التي أصبحت في ما بعد منظمة التجارة العالمية) وقطاع المال العالمي الذي تسيطر عليه وعلى مؤسساته (مثل بنك التسويات الدولية BIS ونظام التحويلات المالية SWIFT)، جنّدتها لشنّ حروبها الاقتصادية لإخضاع شعوب العالم ودوله.
منذ تسعينيات القرن الماضي، أنشأت الولايات المتحدة العديد من المنظّمات الإقليمية والدولية، بإشراف استخباراتها وخزينتها، خدمةً لمصالحها وسيطرتها. كان من أهمّ المنظّمات تلك مجموعة “اغمونت”، التي سارع النظام اللبناني للالتحاق بها. تمثّل مجموعة “اغمونت” المذكورة لـ “وحدات الإخبار المالي”، التي أُنشئت سنة 1995، والمرتبطة بالخزينة الأميركية، إحدى أدوات المراقبة وجمع المعلومات، للتدخّل في العديد من دول العالم. تحاول المجموعة هذه إخفاء هويّتها الحقيقية بالقول إنها:
“منتدى دولي غير سياسي لوحدات الإخبار المالي، لتفعيل التعاون في مجال مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب (ولديها نظام إلكتروني للتواصل، يسمح بتبادل الرسائل الإلكترونية والمعلومات بشكلٍ آمن بين وحدات الإخبار المالي… وتوفّر سكرتارية مجموعة “اغمونت” الدعم الاستراتيجي والإداري لنشاطات المجموعة، ومركزها تورونتو، كندا”.
للمجموعة أربعة فروع عمل:
1 ـ فريق العمل المعني بتبادل المعلومات حول تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
2 ـ فريق العمل المعني بالعضوية والدعم و”الامتثال”.
3 ـ فريق العمل المعني بالسياسة والإجراءات.
4 ـ فريق العمل المعني بالمساعدة التقنية والتدريب.
ولدى «اغمونت» ثماني مجموعات إقليمية، منها مجموعة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي ساهم لبنان كثيراً في إنشائها(1).
أصدر مجلس النواب اللبناني القانون رقم 44 الخاص بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، بتاريخ 20/4/2001، بطلبٍ من حاكم مصرف لبنان، على الأرجح. عُدِّل هذا القانون وطُوِّر بتاريخ 24/5/2012.
ينصّ القانون 44/2001 على إنشاء «هيئة التحقيق الخاصة لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب». ثم انضمّت الهيئة هذه إلى «مجموعة اغمونت» في سنة 2003، و»كانت بين الأوائل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا… وساعدت الهيئة عدداً من وحدات الإخبار المالي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الحصول على عضوية مجموعة اغمونت، وقدّمت مساعداتٍ تقنية إلى وحدات الإخبار المالي».(2)
أُنشئت بعدها «مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» (الـ»مينافاتف»). تعني «منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» الوطن العربي، الذي لا تعترف الولايات المتحدة به كوحدةٍ قومية أو حضارية أو حتى لغوية، وتحدّد هويته بموقعه الجغرافي. كان اسمه «الشرق الأدنى» في عهد الاستعمار الأوروبي، وأصبح اسمه «الشرق الأوسط» في عهد الإمبريالية الأميركية. أُنشئت الـ «مينافاتف» عام 2004، في اجتماعٍ عُقِد في «مملكة البحرين». يقول إعلام المجموعة إنها «مجموعة مستقلة عن أيّ هيئة أو منظمة دولية أخرى، وهي ذات طبيعة طوعيّة وتعاونيّة… (هدفها) العمل المشترك بالمواضيع المرتبطة بعمليّات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب». تعمل المجموعة هذه تحت إشراف مجموعة من الدول والمؤسسات الدولية، مثل: الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الفرنسية والمملكة المتحدة وإسبانيا وأستراليا وألمانيا وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومجموعة اغمونت. مركز سكرتارية هذه المجموعة البحرين، ويُعتبر لبنان من الدول المؤسِّسة للمجموعة، وهو عمل على «إقناع بعض الدول العربية بالانضمام إليها».
«أكّد رئيس مجموعة العمل المالي لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، محمد بعاصيري (الذي أصبح في ما بعد نائباً لحاكم مصرف لبنان)، أنّ المجموعة تسعى إلى تغيير الفكرة المأخوذة عن العالم العربي كمصدرٍ للإرهاب وتمويله». أوضح بعاصيري، الذي يشغل منصب رئيس هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان، «أنّ طبيعة عمل المجموعة تطوعية وتعاونية»، مشيراً إلى أنّ المجموعة لم تؤسَّس بالاتفاق بين أعضائها؛ هي لا تنبثق من معاهدة دولية، وهي مستقلة عن أيّ هيئة أو مؤسسة دولية أخرى تحدِّد عملها ونُظُمها وإجراءاتها».(3)
يعطي القانون رقم 44 هيئة التحقيق الخاصة سلطاتٍ استثنائيةٍ واسعةٍ جداً، منها رفع السرّية المصرفية عن أموال أيّ مشتبه به بـجرم «تبييض الأموال وتمويل الإرهاب»، ولها الحق بالتجميد النهائي لحساباته، وإبقاء الحسابات المشتبه بها قيد المراقبة. توضَع إشارة على القيد والسجلّات العائدة إلى أموال منقولة وغير منقولة، تفيد بأن هذه الأموال هي موضوع تحقيق من قبل «الهيئة». للأخيرة أن تطلب من الأشخاص والجهات المعنية، الرسمية والخاصة، إتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع التصرّف بالأموال المنقولة وغير المنقولة؛ وعلى الجهات الرسمية وغير الرسمية أن تستجيب دون أي تأخير لهذا الطلب. لا يخضع العاملون في الهيئة، أو المكلّفون بالعمل فيها، لأحكام القانون الصادر بتاريخ 3/9/1965، وموضوعه سرّية المصارف.
لرئيس الهيئة، أو من ينتدبه الأخير، أن يخابر مباشرةً السلطات اللبنانية أو الأجنبية كافةً (القضائية والإدارية والمالية والأمنية)، بغية طلب معلومات، أو الاطلاع على تفاصيل التحقيقات. على السلطات اللبنانية أن تستجيب فوراً، دون الاعتداد تجاه الهيئة، بأي موجبٍ للسرية.
«يتمتّع العاملون بالهيئة، أو المنتدبين من قبلها، بالحصانة ضمن نطاق عملهم، بحيث لا يجوز الادعاء عليهم أو ملاحقتهم بأي مسؤولية مدنية أو جزائية»، أيّ حتى ولو ألحقوا أضراراً فائقة بمن يجري تجميد أموالهم المنقولة وغير المنقولة، ولو تبيّن في ما بعد بطلان اتهاماتهم.
«يتحمّل مصرف لبنان نفقات الهيئة والأجهزة التابعة لها من ضمن الموازنة التي تضعها، على أن تحظى بموافقة المجلس المركزي لمصرف لبنان». يرأس هذه الهيئة حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة.
عند إنشاء هذه الهيئة، تمّ استئجار مركز سرّي لها في منطقة الأشرفية في بيروت، ووُضِع هذه المركز تحت حراسة مشدّدة، خوفاً من ردّ فعل «المقاومة الإسلامية» على عمل الهيئة في «مكافحة تمويل الإرهاب». تصنّف الإدارة الأميركية المقاومة كمنظمة إرهابية، وتعتبر نضالها عملاً إرهابياً. لمّا لم تظهر «المقاومة الإسلامية» أيّ ردّ فعل عدواني ضدّ الهيئة، لسنوات عدة، نُقِل مقرّ الهيئة إلى داخل حرم مصرف لبنان. يقول تقرير الهيئة المذكور أعلاه، في مقدمته: «انطلقت هذه المسيرة (مسيرة الهيئة) بإنشاء مؤسسة غير معروفة… تضمّ بضعة موظفين يعملون في مكتب متواضع. حالياً، تشغل (الهيئة) مقراً خاصاً بها، مزوّد بأحدث التجهيزات ومستلزمات الأثاث، داخل حرم مصرف لبنان، وقد تضاعف حجمها خلال السنوات الماضية إلى حد كبير».
يقول أمين عام الهيئة، عبد الحفيظ منصور، «تمكنّا (في سنة 2018) من الإيفاء بكامل واجباتنا، وأثبتنا أننا جميعاً ملتزمون بالتعاون الدولي، وملتزمون أيضاً بتأمين الموارد اللازمة لنبقى دوماً في مرتبة متقدمة ضمن الجهود الدولية المبذولة لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب (stress added)”. ارتفع عدد موظفي الهيئة إلى 49 موظفاً، إلى جانب أمينها العام، واستطاعت الحصول على “الموارد اللازمة”، وقدرها 700 مليار ليرة (سبعمئة مليار ليرة) من مصرف لبنان، وفقاً لمصادر موثوقة في المصرف المركزي. إن هذا المبلغ الذي يتحمّله مصرف لبنان لتمويل “هيئة التحقيق الخاصة” يتجاوز الموازنات السنويّة للعديد من الوزارات، وتبقى هذه الكلفة محاطةً بالسرية المطلقة، إذ إن رياض سلامة يمتنع عن نشر الموازنة السنوية لمصرف لبنان، ولا يسمح لأحد بالاضطلاع عليها.
يقول رئيس هيئة التحقيق الخاصة، حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، في كلمةٍ قدّم بها تقرير الهيئة السنوي لعام 2018: “سنة 2018 كانت حافلة بالتحديات والصعوبات الاجتماعية والاقتصادية الناتجة أساساً عن وجود أعداد كبيرة من اللاجئين، والجمود السياسي… بالرغم من ذلك، نجحنا في صون الاستقرار المالي والنقدي بفضل عزمنا وقدرتنا على الصمود. تبقى مكافحة الجرائم المالية… وتمويل الإرهاب أولوية بالنسبة إلينا”.
سبق لرياض سلامة أن شدّد على أولوية مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، والتي لا علاقة لها بمهمّات مصرف لبنان، كما يحدّدها قانون النقد والتسليف، إذ قال: “إن تطبيق المعايير الدولية في مجال مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب أولوية بالنسبة إلينا”، وذلك في سنة 2016.(4)
هوامش:
1 ـ التقرير السنوي لهيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان لسنة 2018، ص 54.
2 ـ المصدر نفسه، ص 55.
3 ـ جريدة “السفير”، 22/4/2005.
4 ـ صحيفة “الحياة”، “مصرف لبنان شريك في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب”، 24/5/2016.