يا دعاة الفدراليّة الظاهرين والمستترين: حذار حذار
د. عدنان منصور _
عرف العالم الحديث، دولاً وأقاليم عديدة، أرادت انّ تنضوي في ما بينها، بعقد دستوري، داخل نظام جديد عرف بالنظام الفدرالي. الغاية من هذا العقد الفدرالي، هو إتاحة الفرصة للدول أو الأقاليم، في إيجاد صيغة مشتركة لنظام جامع، تعزز فيه الأطراف المعنية، موقفها الموحّد، وموقعها السياسي، والمعنوي، والأمني، والمالي والنقدي والعسكري.
هذه الدول والأقاليم رغم خصوصيتها التي تحرص عليها، إلا أنها آثرت الاختيار والانضمام إلى دولة فدرالية جامعة، لها نظامها الخاص، ودستورها، وقوانينها، وقضاؤها، وجيشها، ونقدها، ورئيسها، وحكومتها، وعلمها، ونشيدها الوطني، يلتزم بها أعضاء ومكوّني الدولة الفدرالية.
خصوصية كلّ دولة أو إقليم عضو، يحترمها الدستور والقضاء والقوانين الفدرالية، حيث إنه لكلّ دولة أو إقليم تابع للدولة الفدرالية، دستورها، ورئيسها، وبرلمانها، وحكومتها، وقوانينها، وقضاؤها، ومواردها المالية المستقلة، وضرائبها الخاصة بها. وهي تعتني بالقطاع الصحي والتعليمي، والأمن الداخلي، وفرض الضرائب، شريطة أن لا تتعارض الإجراءات المتخذة، ذات الصلة، مع نصوص الدستور وقوانين الدولة الفدرالية.
خصوصيّة كلّ إقليم أو دولة منضمّة للدولة الفدرالية، تظهر جلياً، في تكوينها الاجتماعي والثقافي، والتاريخي، والنفسي، الذي لا يسمح بالاندماج الكلي، ويرفض الانصهار في الدولة المركزيّة الواحدة الموحدة، وأيضاً الإصرار على الاحتفاظ بلغتها القومية والتحدّث بها، وتدريسها، وأحياناً تعتمد كلغة رسمية الى جانب اللغة الرسمية للدولة الفدرالية ( كندا، سويسرا، وبلجيكا).
مما لا شكّ فيه انّ الانتقال من الدولة او الإقليم، الى الدولة الفدرالية، تشكل خطوة متقدّمة، تتحصّن داخلها الدولة او الإقليم. إذ انّ الدولة الفدرالية لديها صلاحيات رئيسة يوفرها لها الدستور الفدرالي، حيث تتبع لها القوات المسلحة الاتحادية، والشؤون الخارجية، والعملة والقضاء الفدرالي، وصلاحية إعلان الحرب، وتعيين السفراء.
في الدولة الفدرالية، تصبح الدول والأقاليم الأعضاء، جزءاً لا يتجزأ من مكانة، وهيبة، وأهمية وقوة الدولة الفدرالية، نظراً للفوائد والمكتسبات التي تحققها الدول الأعضاء من خلال هذه المنظومة، وهيكلها الدستوري.
لكن أن تكون هناك دولة مركزية، في بلد كلبنان مثلاً، لا تتجاوز مساحته الـ 10452 كلم٢، وفيه ثماني عشرة طائفة موزعة على مساحة الجغرافيا اللبنانية، كقطع الفسيفساء، ثم ينبري البعض للمطالبة بالفدرالية، انطلاقاً من خلفيات طائفية، وذهنية ضيقة، ومن وجهات نظر سياسية لها أبعادها ورهاناتها الخطيرة، على الرغم من انّ اللامركزية الإدارية الحالية في لبنان، تفعل فعلها، وتستخدم صلاحياتها، وتقوم بواجباتها من خلال المحافظات، والقائمقاميات، والبلديات، بما تتمتع به من صلاحيات، وتنفذها بأعمال ومشاريع في مجالات عديدة، تربوية، وصحية، وتنموية، وخدمية.
لكن عندما تتحول الدولة، من دولة مركزية، الى دولة فدرالية، فهذا أمر خطير، إذ يشكل تراجعاً إلى الوراء، لأنه سيمهّد الطريق في ما بعد، لأصحاب النزعات الانفصالية والاستقلالية، التوجه للانفصال الكامل، والعمل على إنشاء كيانات جديدة هزيلة منفصلة عن الوطن الأمّ.
وما لبنان إلا واحد من الدول في العالم العربي، الذي تفتك به التدخلات الأجنبية الخارجية لا سيما من “إسرائيل”، التي لم تتوقف عن العمل على تفكيك وتفتيت دوله. فالدولة المركزية في العراق، التي أعطت الحكم الذاتي للكرد، وانتقلت الى الدولة الفدرالية، لم تسفر غليل الكرد بحكمهم الذاتي، بل استغلوا الظروف في وقت من الأوقات، ليكشفوا عن نياتهم بالانفصال عن بغداد،
وذلك من خلال إجراء استفتاء، أعلنوا بعده الاستقلال عن العراق، وإقامة الدولة الكردية المستقلة، وإنْ تمّ في ما بعد إحباط هذا الانفصال.
وها هو جنوب السودان، الذي بدأ بالحكم الذاتي، وبعد ذلك بحقّ تقرير المصير، انتهى الى الانفصال الكامل عن الشمال، وإقامة جمهورية جنوب السودان، التي دعمت انفصالها القوى الغربية، ومعها “إسرائيل” التي اعترفت رسمياً وصراحة بذلك، بالإضافة الى دول الجوار السوداني.
وما الاقتتال الداخلي اليوم في ليبيا، واليمن، والصومال، والإرهاب المفروض على سورية والعراق من قبل القوى الأجنبية المتربصة ببلداننا، إلا ليستهدف وحدة الدول، وضربها من الداخل وتقسيمها الى دويلات هزيلة لا حول ولا قوة لها، تتقاتل وتتصارع في ما بينها، لتقوّض أمن ومستقبل الجميع من دون استثناء.
عندما تعلو اليوم أصوات مشبوهة في لبنان، تدعو إلى الفدرالية، فأيّ فدرالية يريدونها؟! هل هناك توافق لبناني عليها!؟
يا دعاة الفدرالية! أنتم لا تريدون وطناً موحّداً، ولا دولة متماسكة، ولا إصلاحاً ولا نهضة. أنتم تريدون لبنان أن يبقى بقرة حلوباً لكم ولعائلاتكم وأزلامكم… فبعد أن جفّ ضرع لبنان، وفعلتم بحقه وحق شعبه ما فعلتموه، تنادون اليوم بالفدرالية، علها تكون بنظركم المخرج المناسب، والملاذ الآمن لكم، لحمايتكم مستقبلاً من المسؤولية والمحاسبة، على ما اقترفته أياديكم السوداء بحق اللبنانيين على مدى عقود.
فحذار حذار من جرّ لبنان وشعبه الى الهلاك والفوضى وتفكيكه. فهذا أمر مرفوض مرفوض، وانْ كلف الحفاظ على وحدة لبنان، المزيد من التضحيات.
اللبنانيون الذين حافظوا على الأرض، لا يمكن لهم التفريط بوحدة الدولة تحت أيّ مسمّيات كانت!
ما نريده، هو لبنان الوحدة والمواطنية الحقيقية، لا لبنان التقسيم والفدرالية.
نريد وطناً نهائياً لجميع أبنائه، لا وطناً تتقاسمه عائلات الإقطاعيات المناطقية المستنسخة…
خيار اللبنانيبن الوحيد هو: إما لبنان الواحد، وإما الفدرالية من دون لبنان، وهذا أمر مرفوض ومستحيل، لأنّ قدر لبنان أن يبقى، وسيبقى…
_ وزير سابق