رياض سلامة وقانون النقد والتسليف (3)
غالب أبو مصلح
تتخذ الإدارة الأميركيّة من «تجريم» تبييض الأموال ذريعةً لتمرير «مكافحة تمويل الإرهاب» – كما تعرّف واشنطن الإرهاب – وذريعةً لبسط سيطرتها على دولٍ ومؤسساتٍ ماليةٍ في مختلف أنحاء العالم. من المعلوم على نطاقٍ واسع أنّ أكبر مركزين عالميين لتبييض الأموال هما لندن ونيويورك، وأنّ أكبر وأضخم عمليات تبييض الأموال في العالم، وخاصة أموال المخدّرات، تقوم بها وكالة المخابرات المركزية الأميركية. يكشف كتاب «Whiteout: The CIA, Drugs, And The Press» (1)، تاريخ ضلوع الاستخبارات الأميركية بإنتاج المخدرات والاتجار بها في أميركا اللاتينية وجنوب آسيا ووسطها، كما في إيران في عهد الشاه بشكلٍ خاص. كما أن تبييض الأموال لا يشكّل عبئاً على الاقتصاد اللبناني، بل إن لبنان يستفيد من عمليات التبييض هذه، وخاصةً من تبييض بعض أموال المغتربين المهرّبة من العديد من الدول الأفريقية التي تمنع خروج الأموال منها. كما أن العديد من المصارف اللبنانية، وربما البنك المركزي أيضاً، والعديد من «أصدقاء» أميركا في لبنان، يتعاطون مهمة تبييض الأموال، بمعرفة الاستخبارات الأميركية ورقابتها، وربما بمشاركتها أيضاً. إن الهدف الأساسي من التشدّد الأميركي في تنشيط وتوسيع صلاحيات هيئة التحقيق الخاصة، وإنشاء هيئات أخرى موازية لها في لبنان، هو محاصرة المقاومة من ناحية، وخدمة أهداف أميركيّة محددة، والعمل ضمن المخططات العدوانية الأميركية تجاه بعض دول المنطقة، وخاصة سورية وإيران. عندما طُلِب من مندوب الولايات المتحدة الدائم في مجلس الأمن، جون بولتون، تعريف الإرهاب، أجاب بحدّة، «الإرهاب هو الإرهاب»؛ أيّ أنّ ما تحسبه واشنطن إرهاباً هو الإرهاب.
توسيع مهمّات وصلاحيّات هيئة التحقيق الخاصة
وُسِّعت صلاحيات هيئة التحقيق الخاصة لتشمل «مكافحة الفساد»، (من دون تعريف الأخير) بإصدار القانون رقم 32 لسنة 2008؛ ثم قدّمت «الهيئة» إلى مجلس النواب اقتراح تعديل قانون «مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب»، ومشروع قانون نقل الأموال عبر الحدود، ومشروع قانون تبادل المعلومات الضريبية. أقر مجلس النواب هذه القوانين عام 2015، بتوجيهات وضغوط من الإدارة الأميركية. في سنة 2016، وبناءً على اقتراح رئيس «الهيئة» رياض سلامة، أُقِرّ القانون رقم 77، لتعديل قانون العقوبات (جريمة تمويل الإرهاب)، والقانون رقم 55 حول تبادل المعلومات مع الجهات الأجنبية، لغايات ضريبية؛ أي ملاحقة الرعايا الأميركيين العاملين خارج الأراضي الأميركية، وعبر الجهاز المصرفي اللبناني، لمنع التهرّب من الضريبة لصالح الخزينة الأميركية.
عمل حاكم مصرف لبنان كذلك على تأسيس لجنتين، خارج إطار «الهيئة»، لخدمة الأهداف ذاتها، وعلى نفقة مصرف لبنان أيضاً. في سنة 2002، اقترح رياض سلامة تأسيس لجنة وطنية لتنسيق السياسات المتعلقة بمكافحة تبييض الأموال، وأُنشِأت هذه اللجنة بقرار من مجلس الوزراء. يرأس هذه اللجنة نائب حاكم مصرف لبنان. عام 2007، اقترح سلامة توسيع هذه اللجنة، وزيادة أعضائها، فأقرّ مجلس الوزراء ذلك، لتصبح اللجنة مؤلفة من أمين عام هيئة التحقيق الخاصة وممثلين عن النيابة العامة التمييزية ولجنة الرقابة على المصارف ومديريتَي الجمارك وقوى الأمن الداخلي، وممثلين عن وزارات العدل والمالية والداخلية والخارجية والتجارة وبورصة بيروت. يرأس هذه اللجنة منذ سنة 2009 محمد بعاصيري.
اقترح بعدها سلامة، سنة 2007، تأسيس لجنة وطنيّة لقمع تمويل الإرهاب، فأُقِرّ اقتراحه، وأُنشِئت اللجنة بقرار من مجلس الوزراء. يرأس هذه اللجنة ممثل وزارة الداخلية (المدير العام لقوى الأمن الداخلي)، وتضم ممثلين عن كلّ من وزارات العدل والمالية والخارجية، وممثل عن النيابة العامة التمييزية وهيئة التحقيق الخاصة. «أُقِر للجنة في أول سنة 2015 آليتان خاصتان بالعقوبات المالية المستهدفة تطبيقاً لقرارَي مجلس الأمن رقم 1267 و1373، وتماشياً مع التوصية السادسة لمجموعة العمل المالي». (2)
أصدر رياض سلامة قراراً، في شباط 2016، يقضي بإنشاء «وحدة امتثال» لدى مصرف لبنان، ملحقة مباشرة بالحاكم، وتتألف من مصلحتين: الأولى واسمها امتثال مصرف لبنان للقوانين والأنظمة (الأميركيّة)، ووظيفتها مراقبة عمليات المصرف المركزي مع الغير، لا سيما عمليات المقاصة وسندات الخزينة والتحاويل التي تقوم بها المصارف من خلال مصرف لبنان، وخاصة الامتثال لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. أما المصلحة الثانية، فهي معنيّة بامتثال المصارف والمؤسسات الخاصة لرقابة مصرف لبنان، للقوانين والأنظمة (الأميركية)، ولديها وظيفة أساسيّة تتعلق «بنشر ثقافة الامتثال» (أو الركوع، أو الانبطاح)، والتواصل مع دوائر الامتثال لدى المصارف والمؤسسات الخاصة الخاضعة لرقابة مصرف لبنان، والتأكد من امتثال هذه المصارف. تتألف وحدة الامتثال في مصرف لبنان من 12 موظفاً.
أقرّ المجلس المركزي في مصرف لبنان تعميماً رقمه 128، يفرض على المصارف إنشاء: أولاً، وحدات الامتثال القانوني التي «تقوم باستشعار المخاطر القانونيّة والتحوّط لها، واتخاذ التدابير اللازمة للإحاطة بهذه المخاطر والحدّ منها»؛ وثانياً، «وحدة التحقّق»، التي أُنيط بها تطبيق الإجراءات القانونية والأنظمة المرعية المتعلقة بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. «تقول المصادر إن إنشاء وحدة الامتثال لدى مصرف لبنان لاقى ترحيباً في الاجتماعات التي عقدها نائب حاكم مصرف لبنان، محمد بعاصيري، مع بعض مسؤولي وزارة الخزانة الأميركية» (3).
إنّ عمل حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، لاستهدافات ومهام خارج إطار استهدافات قانون النقد والتسليف، كانت أولوية لديه، وكبّد مصرف لبنان أموالاً طائلة، يصعب تقدير حجمها بدقة، إذ إن المصرف يُبقي موازنته سرية، ويُخفي بذلك أكلاف هذه اللجان التي يمكن أن تبلغ أكثر من 600 مليون دولار أميركي سنوياً.
هل لبنان دولة مستقلة ذات سيادة؟
كانت القوانين التي أقرّها مجلس النواب، باقتراح من سلامة، كما تعاميم مصرف لبنان الموجهة للمصارف بخصوص «الامتثال» تصدر بعد ضغوطٍ أميركية، أو بعد «زيارات» مسؤولين أميركيين للبنان. تمّ إصدار تعاميم جديدة من مصرف لبنان لضبط علاقة المصارف اللبنانية مع المصارف المراسِلة (وحسب قول عضو في هيئة إدارة جمعية المصارف)، «بعد زيارة وكيل الخزانة الأميركية لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية دايفيد كوهين ولقائه عدداً من المسؤولين في لبنان، بالإضافة إلى رئيس جمعية المصارف في لبنان وأعضائها. ويروي عاملون في القطاع المصرفي أنّ الإجراءات التشدّدية بدأت تأتي تباعاً منذ ذلك الوقت، سواء مكتوبة أو شفهية». (4)
قال رئيس جمعية المصارف (السابق)، جوزيف طربيه، «إنّ إدارتنا تركّز على مواصلة اعتماد المعايير الدولية، ومنها ما يعود إلى مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب والتهرّب الضريبي (في غير لبنان)، وأخيراً وليس آخراً، العقوبات الدولية على بعض دول المنطقة» (5).
تحت عنوان «واشنطن تضاعف ضغوطها على مصارف لبنان»، كتبت جريدة «الحياة»:
«فوجئت إدارة المصارف اللبنانية بمطالب إضافية قدّمتها واشنطن، تتعلّق بضرورة تعزيز الرقابة على حسابات الزبائن. وأشارت إلى أن الحسابات المعنية هي لزبائن يحملون الجنسيات الإيرانية والسورية والسودانية، إضافة إلى جماعات في لبنان مُشتَبه بقيامها بعمليات تبييض أموال. وشكا مصرفيون من أن المطالب قُدِّمت في شكل تهديدات، مع التأكيد على تعزيز دور مصرف لبنان في ضبط أداء المصارف». (6)
تحت عنوان «لبنان يلتزم تطبيق عقوبات أميركية –أوروبية»، كتب جريدة «الحياة»:
«أكد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أن المصرف اتخذ، في ضوء العقوبات المالية الصادرة عن الولايات المتحدة… ضد كيانات وأشخاص في البلدان العربية المجاورة، التدابير المناسبة». (7)
بتاريخ 25/11/2015، زار نائب وزير الخارجية الأميركية، دانيال غلايزر، جمعية المصارف، وبحث معها الأمور المالية والمصرفية، وركّز على «الالتزام الصحيح والعادل بقانون العقوبات الأميركية المتعلق بحزب الله»، وأصدرت جمعية المصارف بياناً على الأثر، قالت فيه إن القانون رقم 44، الذي أقرّه مجلس النواب اللبناني في 24/11/2015، والمتعلق بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، «يندرج في إطار هذه الجهود، وكذلك تعاميم مصرف لبنان، لا سيما منها التعميمان 126 و137، وأُضيف إليها أخيراً إعلام هيئة التحقيق الخاصة رقم 20، والذي يوضح آلية تطبيق القانون الأميركي». وكان غلايزر قد زار رئيس مجلس الوزراء، تمام سلام، والمدير العام للأمن العام، عباس إبراهيم، «وكان نقاش في الأوضاع العامة، لا سيما موضوع قانون العقوبات الأميركية وتداعياتها على لبنان». (8)
أعلن مساعد وزير الخزانة الأميركية لشؤون مكافحة تمويل الإرهاب، مارشال بلنكسي، أنه زار لبنان لبحث قضايا محددة «تتعلق بمنع حزب الله من النفاذ إلى القطاع المصرفي اللبناني، معتبراً أنّ هذا الأمر «أولوية أميركية». ورفع النبرة عالياً حيال حزب الله، واصفاً إياه «بالسرطان الإيراني الذي يفتك بالديمقراطية اللبنانية»، وقال «لدينا ثقة كبيرة بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة ونائبه الأول محمد غزيري، وبسبب متانة هذه العلاقة، نحن قادرون على التعاطي مع القضايا قبل أن تتحول إلى أزمات». (9)
هوامش
1 Alexander Cockburn and Jeffrey St. Clair, «Whiteout: The CIA, Drugs, And The Press», Verso, London and New York, 1998.
2 التقرير السنوي لهيئة التحقيق الخاصة، 2018، ص 60-61.
3 جريدة «الأخبار»، 9/4/2016
4 جريدة «الأخبار»، 23/4/2012
5 جريدة «الحياة»، 27/6/2012
6 جريدة «الحياة»، 19/7/2012
7 جريدة «الحياة»، 15/9/2012
8 جريدة الحياة، 26/11/2015
9 جريدة الشرق الأوسط، 1/2/2019