المثقف والسياسيّ: بين رهان السلطة وسلطة المال
} أسماء الشرقي*
إذا كانت المعرفة هي الغواية الأولى للإنسان فهل يمكن أن نعتبر السياسة جحيم العارف بخفايا دروبها الارتداديّة المهتزة؟
هذه الأسئلة الحارقة تضع الباحث على محك الريب من حقيقة الوصول إلى إجابة شافية حول علاقة المثقف برجل السياسة ومدى قدرته على تغيير الواقع. بخاصة اذا فرضنا منذ البداية أن المثقف العربي يمرّ بحالة موت سريري جراء غيابه الواضح عن الممارسات النقدية والبحثية للواقع، في مقابل انزلاقه في مطبّات محبرة المديح والتزلف والموالاة. فصار الكاتب حبيس أهواء مريديه من أصحاب الصالونات والمجالس «المتأثقفة» وأسواق نخاسة النص المذيل بالتودد والتقرّب لسادة المشهد ممن لهم القدرة على العطاء الزائف والتنصيبات الواهية للكلمة الحرّة من خلال سياسات التضليل والتسويف.
إذا سلمنا مبدئياً بهذه الملاحظات الملغومة حول الواقع الثقافي في بلادنا، فهل يمكن أن نجد منفذاً مقنعاً يحيد بنا ولو جزئياً عن هذه الصورة الطاغية، وذلك من خلال الحفر في آراء مختلفة لنخبة من مثقفي الساحة في تونس.. .هل انتهى دور المثقف فعلاً وهل نحن في زمن «الحضارة الماديّة»، حسب تعبير المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل؟
حول هذا الموضوع يقول الكاتب والشاعر والفيلسوف التونسي سليم دولة: «لقد كانت مسألة التحوّلات الحضارية الكبرى والمنعطفات الاجتماعية من صناعة وصياغة المثقف… خلال التاريخ الكبير للعالم والتواريخ المحلية إذا عرّفنا المثقف بأنه تلك الكينونة الاجتماعية التي تشتغل على الأفكار من جهة التكوين والمعقولية والتماسك المنطقي من أجل إضفاء معنى على الحياة وفق تصوّر جمالي أرحب مما هي عليه الثقافة الانضباطية في عمومها. هذا التعريف الإجرائي للمثقف يستدعي التمييز الواضح على أقل تقدير بين صنفين من المثقفين وبأكثر دقّة ثلاثة أصناف من حملة المعرفة والغالين على الأفكار الكبرى والصغرى. وهم المثقف «تقني المعرفة»، والمثقف الكوارثي والمثقف النقدي العام أما المثقف تقني المعرفة فهو ذلك المختص طباً أو لغة أو صحافة أو تاريخ… فحين يكتفي بمجال تخصصه.. فقط ولا يتجاوزه لتشخيص الحاضر الاجتماعي السياسي، القيمي العام بالتساؤل النقدي الحاذق حول (أحوال الحبّ والعدل والحرية والمساواة…). والعمل الدؤوب على تشخيص ناجع ونافع للأمراض الاجتماعية كما الانتحار والعنوسة… والانقطاع المدرسي وعودة المكبوت الاستبدادي وتبذير الذكاء الفكري والعاطفي.. والانتحار… والقرف من الحياة واليأس من إصلاح الزمان السياسي… والبحث عن أسباب ومسببات هذا «القلق في الحضارة»، فإن مثل هذا المثقف المكتفي «بعيادته» حين يكون طبيباً مثلاً.. يكون في موقف «الطبيب، الرجعي» رغم مهارته المعرفية والتقنية أما حين يطرح مسألة العلاج العام لأسباب الظاهرة المرضية فإنه فعلا يخرج من» برجه العاجي» وبذلك يكون قد «دس أنفه في ما لا يعنيه» وتلك هي مهمة المثقف النقدي الملتزم من منظور جون بول سارتر التي أتبناها شخصياً.. وأن هو «المثقف»، مطالب اجتماعياً وحضارياً أن ينقد أسلحته النقدية باستمرار متسلّحاً بالشجاعة الكافية لتحمل تبعات مواقفه النقدية الجارحة ضد سلطة أصحاب «الأمس الأبدي» وضدّ مَن يمكن لي تسميتهم «سحرة المستقبل الديمقراطي المحلوم به بأدوات العنف والفاشية ذاتها… وأن يكون المثقف مخلصاً لذاته ومعرفته مسلّحاً بوعي تاريخي وإن اقتضى الأمر التفكير ضد بني جنسه كما فعل المثقف النقدي اليهودي الأصل الجسور «ستيفان هسل» حين كتب آخر أيام حياته كتاب «فلسطين خيانة أوروبية»، أو كما كتب صاحب كتاب «الأيادي القذرة» من قبل كتاب «عارنا في الجزائر» ومن أقصد غير الفيلسوف جون بول سارتر…..». ويؤكد الباحث سليم دولة مجدداً أنّ «على المثقف العربي بالتحديد أن يساهم نقدياً بكل جرأة في تشخيص أحوال الشأن العام والأمر العمومي العام من أجل الاقتصاد الوطني في تبذير الذكاء العاطفي والمعرفي وقد أخذت أحوال الدار في التدهور وإن كنت شخصياً أحلم بتغيير أشكال المقاومة التقليدية للمثقف الحالم بمدينة فاضلة أن ينتبه إلى ضرورة ما أمكن لي تسميته في سياق آخر، النضال المجهري <الميكروسكوبيكي» كأن يُعنى بتغيير أبسط المشاكل الذي هو قادر على تغييرها كأن يكون مساهماً في الساحة العام الجديد وأقصد المنابر الإعلامية من أجل تبسيط الوعي بالشأن الايكولوجي العام منبهاً إلى خطر الاستثمار السياسي الغباء..».
لأن انتصر سليم دولة الى فكرة المجابهة النقدية اللاذعة والعارية للفعل السياسي ايماناً منه بأن «حال الدار قد تدهورت»، على حسب تعبيره؛ فإنّ علاقة صاحب الكلمة مهما كان شكلها وجنسها، بممارسة الشأن السياسي تظل من وجهة نظر الشاعر الدكتور المحاضر في جامعة عمان محمد الغزي من تونس في حالة قلق دائم ويفسرّ ذلك بحقيقة أنّ «المثقّف كان دائماً مورّطاً في السيّاسة منغمساً في بلبالها، لا يستطيع الانفصال عنها أو التبرؤ منها.. لكن وظيفة المثقف السيّاسي هي في المقام الأوّل من وجهة نظره «النّقد وإثارة الأسئلة ومراجعة المنجز، المثقف هو المتعطش دائماً إلى الأفضل لهذا يظل دائماً على قلق».
هذا الصراع السيسيوـ ثقافي بات واضحاً من خلال رؤية النخبة المثقفة في تونس بمختلف مشاربهم وانتماءاتهم، حيث تتعدد المفاهيم الفيصلية والدقيقة حول دور الكاتب وعلاقته بالشأن السياسي من زاوية النقد وكشف الهنات.
وتعتبر الشاعرة التونسية راضية الشهايبي أن «للمثقف دوراً فعّالاً في تغيير المشهد السياسي في تونس ويختلف دوره عن دور السياسي. فالأوّل وظيفته تنويرية بينما الثاني مهمته التضليل، فإن كان المثقف يعمل جاهداً على فحص الواقع ونقله محاولاً كشف الحقيقة وإكساب المتابعين قدرات تساعدهم بدورهم على قراءة المشهد السياسي، فإنّ السياسي يعمل على تعتيم الحقيقة بكلّ الوسائل لمنع المثقف من احتلال المنابر والتواصل مع عامة الناس، وتستمرّ الحرب الباردة بينهما. إلاّ أنّ المثقف الحقوقي هو الذي يكون ـ التنوير ومناصرة كل القضايا العادلة والعمل على درجة الوعي لدى الناس ليفهموا ما يدور حولهم – مشروعاً له».
وهي بذلك تناصر فكرة الكاتب الروائي محمد عيسى المؤدب الذي وسّم بدوره المثقف التونسي عندما قلده مهمة الجندي الذي يحمل سلاح الكلمة ليذود عن شرف الوطن، مستمسكاً بذلك بأمثلة من رواد وأدباء النهضة التونسية وله في كتاباته مثال يُحتذى به اذ يقول إنّ للمثقّف دوراً خطيراً في تغيير المشهد السياسي في تونس، فلو عدنا إلى التاريخ سنتوقّف على ما لعبه الشّعر الوطني مع أبي القاسم الشابي ومنوّر صمادح من دور فاعل في فضح المستعمر وتوعية الشّعب، وسنتعرّف على ما لعبه الأدباء بعد الاستقلال من أدوار في بناء الدّولة كالمسعدي، ثمّ نقد جماعة الطليعة للسلطة من أجل قضايا سياسية واجتماعية حارقة..
اليوم أيضاً المثقّف ملتزم فعلاً نحو مجتمعه ووطنه وضميره ووعيه الإنساني بالأساس، ففي تجربتي غصّت في نقد متحوّلات المشهد السياسي وأخطائه.. في رواية «جهاد ناعم» كانت التّيمة المركز هي انغماس السياسي بعد الثّورة في التطرّف والتجارة بمشاعر الشّباب والفقراء، وفي رواية «حمام الذّهب» اشتغلت على تاريخ الأقليّة اليهوديّة أو يهود القرانة، وما كان يُميّز مدينة تونس العتيقة من تعايش بين اليهود والمسلمين والمسيحيين، وطرحت السّؤال الأخطر: لماذا كانت تونس في الماضي متعدّدة ومتنوّعة ومتعايشة بمختلف الحضارات والثقافات والدّيانات، والآن صارت حلبة للكراهيّة والحقد وإقصاء الآخر المختلف على المثقّف أن ينتصر للإنسان ويواجه مزالق السّلطة بشجاعة لأنّ الإنسان باق أمّا رجل السياسة الماكيافيلي فراحل إلى اتّجاهات شتّى وأغلبها السّجون أو مزابل التاريخ بين شدّ ومدّ، في محاولة لتنقية هذه الفكرة السائدة التي تضع المثقف في بؤرة التسطيح الفكري ومهانة «سلعنة القيم والأفكار» يلخص الشاعر والإعلامي بإذاعة تونس الثقافية زهيْر النفزي رأيه حول المسألة والتي أنصفت الى حدّ ما – حسب اعتقادي – صورة المثقف التونسي ـ الذي يعكس بقوة الهدف،ـ ملامح المثقف العربي عامة.
حيث يعتبر الأستاذ زهير «أن تونس شهدت في السنوات الأخيرة تحولاً سياسياً عميقاً أعلنته ثورة 17 ديسمبر\14 جانفي 2011، على هذه الأرض المتحركة المرتبكة التقى الفاعلون السياسيون والخبراء للمساهمة في رسم الصورة وقد ارتحلت من صيحات الغضب وخطاب الرفض إلى ملامح المشروع الممكن وتفاصيل البدائل.
في تربة هذا الحدث داحت شجرة الأسئلة ومنها: أي دور للمثقف في محاورة مستجدّات الواقع السياسي؟ هل يكون للمثقف صوت في فضاء المتغير والمتحرّك ضمن مسار التطورات السياسية ذات الصلة بالخطاب والأطروحات والمؤسسات؟».
كما يرى أنّ البلاد «حين رامت إرادة الحياة ووطن الحرية في حاجة إلى مثقف ذي عقل عملي لا يغيب عن العصر هو «شاهد» لا يُهادن الموجود فلا يكون (والعبارة لابن خلدون) آلة السلطان التي تُجالس الحاكم هادئة أو تشغف بالسلطة راضية مرضية، المشهد السياسي يتطور حتماً بمثقف ذي تصور مجتمعي، يمشي بين الناس في الأسواق والأنهج وشوارع المدينة يُصغي إلى اللحظة والثورة فيكون لسان الحال الذي يُتابع الواقعي والمرئي ويرصد ما وراء ذلك من بُنى فكرية وعقلية وثقافية فيرد الكثرة (الأحزاب ـ وجهات النظر ـ الأحداث) إلى الوحدة ويتناول الوحدة في كثرتها وتعددها، يُتقن النظر في الثابت والمتحول وينتصر إلى قضايا العقل والحرية والحداثة والإنسان، مثقف يُسائل بيان السياسي ويلتقيه في مقامات الحوار، مضيفاً إليه ما يعتقد انه سند اللحظة وعمدة البلاد وشروط انتقال الثورة من لحظة البدايات المغامرة إلى عقلنة مسارها، على طريق غير سالكة، معالمها غير واضحة.
رسالة الكاتب الكشفُ للناس عن الحقيقة، وهذا ما عبر عنه الفيلسوف الألماني (نيتشه): «فمن لم يكن يحيا لكشف الحقيقة كاملة فهو أفّاك… لا قدْرَ له ولا مقام له».
لسان المثقف (قلمه – رسمه ـ صوته وصورته – نصه…) لا ينبغي حسب رأيي أن ينطق عن الهوى والانفعال والايديولوجيا، هو لا يعرض المُنى والأحلام إلا بمقدار ولا يُحذّر من المتغير والمتحول المتبدل إلا ليُعلن عن نوافذ الآمال وفسحتها رغم ضيق العيش فالمثقف هو موقف وليس مهنة. (جون بول سارتر).
المثقف في مقامه الإعلامي الاتصالي (وهو أمر تبيّنتُه ومارسته منذ سنوات) ينبغي ان يتصف بثلاثية أراها مسلكاً من مسالك التعبير عن الحادث السياسي وما تعلق بثورة تونس منذ 2011، على الإعلامي ان يكون يقظاً لحظة رصده مشهدية اليومي والواقعي وعليه ان يُنشئ جسراً من جمالية الخطاب يصله بالمتلقي، فليس القول الإعلامي منطوقاً تاريخياً أو بحثاً علمياً أو سردية تقنية، لكل ذلك فضل التعبير عن الثورة التونسية وحفظها ضمن سجلات التاريخ وخزائن الذاكرة وللخطاب الإعلامي (الإذاعة – التلفزيون خاصة) فضل التعبير عن الواقع بلسانين: لسان القرب والنقل والتسجيل ولسان الجمالي والممتع الذي يُحيي القلب ويزيد في العقل، عقل كم نحتاجه في الثورة والتاريخ والجغرافيا.
إذن، إنّ المراد من هذا الطرح في أقصى أهدافه هو إيجاد نواة فكرية منتجة وغير مهدرجة تتماشى والتجاذبات السياسية التي تعيشها مجتمعاتنا العربية في غاية مأمولة لإعادة احياء صورة المثقف وحقيقة دوره في نحت ملامح جديدة للواقع بعيداً عن مغبّة سقوطه في ثغرات الفعل المبني للمجهول.
*تونس