أولى

موانع النظام الفدرالي في لبنان

 نضال القادري

النظام الفدرالي هو شكل من أشكال الحكم. تكون فيه السلطات مقسّمة في الدستور بين الحكومة المركزية للدولة مع (حكومات أصغر تابعة للأقاليم، المحافظات، المقاطعات، أو الوحدات الإدارية التي يتفق على تسميتها في الصيغ الدستورية). يكون كلّ من المستويين المذكورين؛ الحكومة المركزية والحكومة الإدارية معتمداً أحدهما على الآخر ويتقاسمان السيادة القانونية والتشريعية، الإدارية والانتظام العام، والإنماء، وأشياء أخرى. إذا تكون الأقاليم، المقاطعات أو الولايات وحدات دستورية لكلّ منها نظامها الأساسي، أو نظام ملحق بالسلطة المركزية الذي يحدد سلطاتها القضائية والتشريعية والتنفيذية. وفي ما يخص سلطات الحكم الذاتي للأقاليم، أو المحافظات أو الولايات فمنصوص عليه في دستور الدولة المركزي. ويكون دستور الدولة المركزي جامداً يصعب تغييره بسهولة بحيث لا يمكن المساس به بقرار أحادي من الحكومة المحلية أو المركزية، ويكون من المواثيق التي تعمّر طويلاً نظراً لشموله على تقاسم النفوذ والثروات وسلطة القرار الإنشائية والتنفيذية.

من أبرز الخصوصيات التي تتسم بها الأنظمة الفدرالية أنّ يكون المنشأ الذي قامت عليه الكيانات فيه ما يكفي من المشتركات والارتباطات ما يجعله يتغاصن ليشكل شجرة واحدة، كأن يقوم على حقائق وموروثات حضارية إما محلية، تاريخية، عرقية، ثقافية أو كلها مجتمعة ليجعلها قادرة أن تتبوتق في نظر المتآلفين نحو هذه الفكرة من السكان هوية وطنية جامعة. تكون أبرز الملامح النظامية الأساسية للفدرالية في توزيع السلطات. إن تقسيم السلطات أو تقاسمها هو نتاج احتمال عدم قدرة أيّ من الحكومتين (المركز أو الأقاليم) على تولي السلطة وممارستها منفردين بشكل يؤدي إلى تقلص فرص النمو والتقدّم كما انعدام الصراع الإيجابي بين الأمم الأخرى آخذين كلاهما بعين الاعتبار فيما لو كان الاتحاد الفدرالي غير موجود.

إنّ نظام الدولة الفدرالي هو نقيض نظام الدولة الأحادي. فالدولة الأحادية تقوم على دستور واحد للدولة، وسلطات واحدة مع تقسيمات إدارية لا تخوّلها أن تخوض في إنشاء تشريعات قانونية لممارسة السلطة من خلالها بل تتلقاها مركزياً لتنفيذ مضامينها دون اجتهادات وإضافات. تتشابه الدولة الفدرالية والأحادية فقط في أنماط التقسيمات الإدارية شكلاً، وتختلف في التطبيقات الدستورية ومضامين التسلسل الإداري والحوكمة.

على هامش الدول الفدرالية تنشأ فكرة الحكم الذاتي لبعض أقاليم الدولة المركزية، وتكون في حالات بعض الدول مقدّمة لانفصال هذه الأقاليم عن الكيان المركزي، وتنشأ في ما بينهما علاقة طردية في الابتزار والانشقاق المجتمعي والتمايز. تلاقي المحاور السياسية الإقليمية، والمحاور السياسية الدولية أفكاراً بعضها ثقافي، حضاري، لغوي، ديني أو عرقي أو تتذرّع بأي رابط وهمي تخويفي لجذب هذه الأقاليم إلى حظيرتها لقهر الدولة المركزية، وأخذها إلى الانفصال في استفتاء يكون دستور الدولة الفدرالي قد أعطى لهذه الأقاليم حق تقرير المصير باستفتاء عادة ما يتمّ تحت مظلات دولية قانونية أو اعتبارية، ويتمّ إعطاءه شرعية واعتراف دوليين.

توفر الفدرالية نظاماً قويما للأفراد بحيث تكون فيه التعددية الديمقراطية للفرد سمة ورافعة دستورية له، وفي الممارسة تكون المواطنة مزدوجة من حيث ممارسة هذه الديمقراطية. إشكاليات الولاءات والانتماءات تتوالى لتدخل على خط المنافسة الممارسات «الديمقراطية» والحقوق الأساسية للأفراد والواجبات التي يؤدّيها تجاه الدولة المركزية. تختلط الحقوق الفردية مع العامة، وتتكامل وتضعف بين الولايات والمواطنات داخل الدولة بحسب الأحداث الداخلية والمؤثرات الخارجية عليها. يطرح مؤخراً فكرة أن يكون لبنان دولة فدرالية. حسناً، سنتعامل بطريقة علمية وبراغماتية مع الفكرة التي تجترها المجموعات السياسية على موائد الإعلام في ظلّ انقسام حادّ سياسياً على قضايا شتى. ليس في الفكرة الفدرالية اللبنانية من مشتركات ومنطلقات كثيرة يبنى عليها. تبدأ الفكرة من التنابذ والتنازع على توليفة لترميز هويةالمواطنة اللبنانية على أنها تعود إلى 6000 عام، تتصارع الطروحات على نار الأحلاف الإقليمية ونفوذها المحلي، والهيمنات الدولية الكثيرة المتقافزة على يومياتنا، ووقوع لبنان في فالق احتلالي تاريخي يتمثل باغتصاب «إسرائيل» لجيوبولتيك الهلال الخصيب بالكامل، وأطماع الاحتلال التاريخية التوسعية. أيضاً، لا بدّ من استيضاح سريع حول ماهية المقاربات التي تسوّق لبنان وتطرحه دولة فدرالية كل ذلك يتمّ بمرورنا على سكة «ألف باء» الأسئلة لنحتكم، ولو بشق النفس، إلى تطبيق حكم فدرالي قويم وحكيم ورشيد. وسأترك الكثير من الإجابات (السياسية بالتحديد) معلقة برسم مكونات «الشعب اللبناني»، أو لنقلبدقة أكبرمكونات «الشعوب اللبنانية». ومنها:

أولاً: كيف، وعلى أيّ أسس سيتمّ تقسيم الولايات جغرافياً؟

ثانياً: أيّ مقادير ستوازن التقسيم الإداري. المقادير الطائفية، المقادير المذهبية، أو الغالبة عددياً في جغرافية الإقليم، أو ميليشيات الطوائف والمذاهب المسلحة في نطاق حدوده، أو بنتيجة حكم واستفتاء شعبي عام؟

ثالثاً: هل ستعطي الفدرالية الحرية الشخصية للأفراد من العيش والانتقال والتملك في الأقاليم التي يختارونها؟ الإجابة نعمرغم أنّ بعض بلديات لبنان تمنع تملك (غير المسيحيّين) في نطاقها لأسباب دينية رجعية ومرضية! ولكن، أيضاً من يضمن عدم الانتقال المنظم من إقليم لآخر لإحداث فرز سكاني مذهبي من لون واحد، أو ما يشبه «الترانسفير» السكاني تمهيداً لإقامة أقاليم مذهبية وطائفية بالكامل في عجقة مشاريع الأديولوجيات الفاشية. إنْ حصل ذلك، سيكون جوابي على أنّ الانتحار المجتمعي فكرة طوباوية يسعى إليها أصحاب المشاريع القاهرة الهدامة في ظلّ غياب فكرة المواطنة الكاملة، وانزياح الأفراد في الدولة المركزية ليكونوا تشريعياً ضحايا وأرقام وأبواق لولايات الطوائف والمذاهب.

رابعاً: إنّ الجوع الذي يأكل رغيف «المواطن» اللبناني لم يوحّد السكان في وجه سلطة مركزية بأحزابها المدجّجة بالارتكابات، وزعاماتها الطاعنة في السن والتوارث والتكاثر، وناهبي ثروات البلاد، ليجعلها واحدة من المشتركات في كيان يريد أن يترقى في ديمقراطية البلاد، ويجعل من فصل سلطاتها نموذجاً تكاملياً. فهل ستوحّده فكرة الفدرالية؟

خامساً: إنّ كلّ محاولات وبيانات «درء الفتنة» الدينية، ومحاولات الوقوف على نوستالجيا ذكرى انتهاء الحرب الأهلية في كلّ عام لم تعط درساً قابلاً للتطبيق في ساحات السلم الأهلي، وتجذر «ندماً» و «حرماً» في ذاكرة جماعية مشتركة.

سادساً: يحتفل لبنان في كلّ عام بذكرى الاستقلال عن الانتداب الفرنسي وسط تضارب السكان حول وطنية رجال الاستقلال، ويساق الإجماع أنّ أكثريتهم لم يكونوا رموزاً «وطنية» واستقلالية بل كانوا واجهات للدولة المحتلة. في ذلك يختزل ميزان البطولة والعمالة. وما أكثر الأمثال «لعلكم تتعظون».

سابعاً: غياب الرؤى الموحدة تجاه طرح الأفكار الاستراتيجية التي يرى بعض السكان أنها حاجة وجودية للنمو، بينما يراها البعض الآخر علة وخراباً اجتاحت الفكرة اللبنانية إذ يستحيل التعايش معها؛ ومن الأفكار المزعومة: الحياد، الحياد الإيجابي، قوّة لبنان في ضعفه، النأي بالنفس إلخ

ثامناً: لم تطبّق تسوية «اتفاق الطائف» الذي أصبح دستوراً، وذلك عبر الشروع في تنفيذ مضمون المادة 95 من الدستور اللبناني! وقد نصت المادة على إلغاء الطائفية على مرحلتين.

تاسعاً: أيّ عقيدة سيعتنقها «الجيش اللبناني»؟ ولكثرة ما نحبّه، يا لخوفنا أن نجعل منه «برندات» تشبه «غيابنا عن الوعي»، ولا عجب بعدها أن يصبح «جيوشاً لبنانية» في بلاد كثيرة.

عاشراً: اسمحوا لأنفسكم أن تطبّقوا أولاً فكرة اللامركزية الإدارية، أو اللامركزية السياسية. إنْ نجحتم بفكّ ألغام الإدارة، وتفكيك عقد السلطة المركزية وتقاسمها في المحافظات مع حكومة المركز دونما تهميش فكرة الدولة والسلطة والانتظام العام. عندها أهلاً بكلّ أعراسكم!

أسئلة كثيرة، وجديرة أكثر، تطرح في سياق أطروحات الفدرالية اللبنانية في ظلّ غياب قوانين موحدة للأحوال الشخصية، واستحالة استحداث قوانين موحدة للأحزاب، وتردّي قوانين الجمعيات الأهلية العثماني الصادر عام 1909 التي لا تلزم الأفراد والجماعات بإنشاء أحزاب عابرة للطوائف لتغذي بها فكرة المواطنة والدولة المدنية بديلاً عن الكانتونات بكلّ أشكالها داخل الدولة.

في ظلّ استحالة وانعدام فكرة الدولة المدنية بمداها المنظور، برأيي أرى تطابقاً يتكوّر ما بين الفدرلة في دولة تعدّدية دينية فاشلة، كفكرة «الأمة اللبنانية» الحالية، مع مشروع مؤسّسة «الإسرائيليات» المباركة المباحة المطلوبة في العقيدة الخارجية الأميركية تمهيداً لتتويج الأسرلة بمفهومها «اليهودي» كقومية خالصة في كيانات وفدراليات الهلال الخصيب. لنا في دستور الحاكم العسكري على العراق «بول بريمر» الاتحادي الفدرالي وما تضمّنه من امتيازات لكردستانالعراق مثالاً صارخاً ينحو بها للإنفصال. ولنا في التنازع الدولي بقواه المختلفة المحلية والدولية لفرض دستور فدرالي على الجمهورية السورية، إذ ترى الدبلوماسية السورية الرسمية أنّ فيه لغماً كامناً سيولّد ضرراً بوحدة الجيوبولتيك السوري، وسيكون شمالها فيه عرضة للانفصال عن المركز، وأشياء أخرى تضرّ بالهوية الوطنية. لقد تسنّى لي الحصول مؤخراً على ثلاث مسودات لاقتراحات «أميركية» و «تركية»، وأخرى «روسية» تزعم جميعها أنها وضعت لإنهاء ما يعرف بالحرب السورية عبر منصات المفاوضات. بعد قراءتها أؤكد أنها لتسوية «الحرب على سورية»، ولتظهير أو إحداث وفرض انتصار دستوري خارجي بعدما فشلت آلة الحرب العسكرية بإسقاط «النظام» وطرح الحلّ السياسي الذي يحلو للمنتصر.

تاريخياً، لقد خاض لبنان شكلاً ناعماً وفاشلاً من نظام الفدرالية في تاريخه عبر نظام «المتصرفية» و»القائمقاميتين». لا بدّ لكيان تعدّدي يتعايش مع بعضه على عقد التخويف من الآخر المختلف أن يتلاقى على أفكار جديدة للحياة في القرن الواحد والعشرين، نافضاً عن جلده أفكار التعايش. فالتعايش ميثاق كاذب، وأثبت الميثاق «الوطني» الذي صاغته تلاقي الإرادات المذهبيةربيبة الاستعمارفشله عبر أحداث تاريخية مفصلية. الميثاق اللبناني الحالي رحم لم يعمر فيه لبنان طويلاً. عندما يولد «طائر الفينيق» وينفض جناحيه من تحت الركام لا تكتب له الحياة. وإذا قدر للصدفة أن تنفخ فيه الروح فيبقى بمضمونه الطوائفي مولوداً مشوّهاً فارغاً من دون طعمة وروح ولون وجينات. لعمري، إنّ كلّ أنواع «البوتوكسات» ومساحيق التجميل لا تغيّر في مدرحيته. لا بدّ من انتصار أفكار العقل الفاعل على التكاسل الفكري في لبنان، وتحريم اجترار المصطلحات والمفاهيم وسط ضجيج الشوارع وغرائزها. في ذات مرة قال المفكر الشهيد أنطون سعاده: «إنّ لبنان يفنى بالطائفية ويحيا بالإخاء القومي». وسط كلّ هذا الضجيج، وفي عجقة الطوائف، وتغوّل المذاهب على الشوارع، من ذا الذي سيسمعني يا ترى إذا تسنّى لي أن أصرخ برخام صوتي: قل رب زدني علمانية.

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى