بين التعبيريّة والانطباعيّة وفردوس الألوان في لوحات أنجيلا تاتلي
} طلال مرتضى*
وأنت تطالع عن كثب تجربة التشكيلية الألمانية انجيلا تاتلي تجد أن هذه الرسّامة لم تكتفِ بالمدارس الفنية المعروفة بل سعت لابتكار هوية تتناسب وفخامة أسلوبها الخاص. لذا فإن فتح اكوادها المطلسمة تحتاج لممكنات قرائية تتلاءم و»المتخيّل – الواقعي» في عالمها.
التجربة في عين المتلقي العادي مخاتلة ومواربة، لأنها تذهب بالرائي إلى غير موطن، فالدلالة العامة لأعمالها تشير إلى أنها ربما تقترب مما هو معروف بالمدرسة الانطباعيّة الفنيّة التي ذاع صيتها في القرن التاسع عشر، حيث استمدّت تلك المدرسة اسمها من لوحة «انطباع شروق الشمس Soleil Levant» التي رسمها كلود مونيه الفرنسيّ، وتعتمد في أسلوبها على نقل الحدث او الواقع من الطبيعة، كما تراه العين وبعيداً عن التخيّل والزركشة.
ولكننا اذ ما اقتربنا لدرجة التلامس نجد أن ما تركته انجيلا تاتلي من تشكيل لوجوه نساء عابرات في الحياة، كانت تقف على خط التماس المحاذي للمدرسة الانطباعية تلك، ولكنها لم تنهل من معينها الفني سوى ما اعتقدناه نحن كمتلقين من خارج دائرة الرسم..
فتلك الوجوه التي حملت توقيع انجيلا لم تكن لتنحاز إلى تلك المدرسة، بل نهجت نهجهاً الخاص والذي يقدمها كتجربة مستقلة من دون الوقوع او التأثر بمذهب فني اخر، حيث يتبدّى هذا من مجموعة الخطوط العريضة التي كوّنت منها وجوه النساء وكذلك حركة شفاههن التي لا تطابق الواقع الانطباعيّ، حيث إنها كسرت ومن خلال حركة هذه الشفاه مكامن الفتنة الإغرائيّة على الرغم من حضور النسوة الواقعي في الحياة، لكنها بالوقت ذاته ذهبت وبتركيز «تعبيري» إلى اظهار الدلالات الحسيّة للوجوه، أرادت من تلك الوظائفيّة بعينها، الذهاب إلى ما هو اعمق في غور تلك النسوة وذلك لملامستها من الداخل وليس الخارج كما الانطباعيين.
وهنا استطيع القول بان انجيلا اجادت التأثير على بنيان لوحتها. فالوجوه وبالمطابقة ليست حقيقية فهي وعلى الرغم من تجريدها سلاح الاثارة لم تستطع اخفاء اللمسة الأنثوية عنها، فقد تركت لفرشاتها حرية الحركة والانسياب على تلك الوجوه لتتركنا في بعد تحت سطوة دهشتها من خلال نافذة الإيحاء وليس الإشهار فتأخذك.. وهنا تكمن موهبة الفنان الحقيقي الذي لا يسلّم مفاتيح فكرة لوحته بسهولة. فاللوحة الفنية هي مجموعة الحيوات الكامنة والكاملة والتي تتشكّل من متواليات عدة داخل مربع الاطار، حيث ينطلق الفنان لتبيان مهارته الابداعيّة داخل كل حلقة من تلك الحلقات وعلى سبيل المثال يمكننا ان نلتقط الكثير في وجوه انجيلاً مساحات شاسعة من الظلّ يبدي في مكانه إشراقاً لافتاً على عكس دال الظلّ.. من دون شك يمكن لاي منا قراءة أي وجه من هذه الوجوه من خلال ارتدادها العكسي علينا او ما يُسمّى بصدى العمل الفني في عيون قارئيه والذي يحفّز مخيلة الاخير ليصار لمقاربة الفكرة المرسلة اليها من اللوحة مع مثيل لها عالق في ذاكرتنا الباطنيّة او الكامنة. وهنا تحدث الصدمة القرائية، فالفكرة التي استيقظت تواً في ذاكرتنا وعلى الرغم من حقيقتها الكلية الا ان انا القارئ ستقوم بهجمة مرتدّة لترد كل تلك الارتدادات إلى ما هو داخل الاطار..
اردت في هذه المقابلة ان أزيح عن كاهل المتلقي او القارئ فكرة مناددته لذاته الخاصة حول تفسيره لقصة ارتداد اللوحة، وهذا ما يؤدي بي للوصول لقناعة تامة بأن ما نقوم بقراءاته من دلالات ورموز واشارات في اللوحة الفنية لا يعني بالضرورة ان تكون بالفعل هي انعكاسات للذات القارئة بالمطلق. والدليل القاطع على ذلك أستقيه من تجربة انجيلا، فهي استطاعت كسر المقولة المعروفة التي تقول وبتصرف، ان كل ما يصلنا من انعكاس من اللوحة الفنية له مقابل مخزن في ذاكرتنا الجمعية، فالمتمعن في وجوه انجيلا سوف يؤيد فكرتي هذه عندما يطالع وبجدية القارئ في رسم العيون لتلك الوجوه. فالعيون هي بوابات ونوافذ لتلك الوجوه التي رسمتها انجيلا والتي تؤكد بان مرجعية تلك العيون تعود للوجه الذي هي جزء منه وتمثله هو ولا يمكنها ان تكون انعكاساً او طباقاً لوجه اخر..
اختارت انجيلا زاوية نظر محددة بعينها كي تكون الهوية المثالية لهذا الوجه بعينه، وهذا ما يستدعي للقول إلى ان كل وجه من تلك الوجوه يحتاج قراءة تخصّه من حيث الاشارات وزاوية النظر التي لا تشبه زاوية نظر أخرى في مثيلاتها من العيون، فهي تجنح إلى الرومانسية وتنبذ الذاتية والواقعية المفرطة.
تختلف دلالة الالوان لدى انجيلا من وجه لاخر، لكنها جعلتها تلتقي في خط تكوين واحد، فالمصدر اللوني هو مائي بحت، وهذا أيضاً يعود لامرين..
الاول، ان الالوان المائية هي طيعة ومُلَطِفة في الوقت ذاته، يمكن تمديدها وتكثيفها والتأثير عليها من خلال عملية المزج الذي يجعلها ذات حساسية تميّزها عن سواها من ألوان.
والثاني، هي الوان أنثوية، طواعيّتها وليونتها من طواعية الأنثى وجماليتها من جمال وحضور الأنثى الشفيف كما الأنثى التي تكنه في تكوينها طبع الماء.. كما أن الناظر إلى أعمالها لا بدَّ أن يصله التأثر بإشراقات بودلير.
الفنانة انجيلا تاتلي شاركت في معارض فنيّة مشتركة عدة وخاصة في ألمانيا ودول الاتحاد الاوروبي.
*كاتب عربي/ فيينا.