الحرب النفسيّة هي العقوبات الحقيقيّة
ناصر قنديل
– عندما تكون الودائع السوريّة في المصارف اللبنانيّة والتي تزيد عن عشرين مليار دولار، قد أصابها ما أصاب الودائع اللبنانية، وعندما يكون ما ينطبق على بعض الودائع اللبنانية لجهة حق الإفادة من احتياطات المصرف المركزي للقيام بأعمال الاستيراد للسلع الضرورية، لا ينطبق بطبيعة الحال على الودائع السوريّة التي كان جزء رئيسي منها يغطي فواتير الاستيراد لسلع رئيسية في السوق السورية، يصير طبيعياً توقع الاعتماد على الضغط على سوق الصرف السورية لتأمين الدولارات اللازمة لتغطية حاجات الاستيراد. وهذا سيتكفل بإحداث قفزات متسارعة في سوق الصرف، وعندما تكون فاتورة المشتقات النفطية هي الكتلة الكبرى من هذا الاستيراد، قد تمّ تأمينها من دون الدخول في سوق الصرف. فهذا سيتكفل بتوفير الفرصة لقفزات عكسية في سوق الصرف، وهذا ببساطة ما شهدته سوق الصرف السورية خلال الشهر الماضي حتى ليل أمس، وفي خط صعود سعر الدولار يدخل المضاربون لمضاعفة الارتفاع، وتدخل الحرب النفسية لمنحه تفسيرات تتيح مضاعفته مرة أخرى، وتستثمر على توظيفه في السياسة، لكن عندما ينخفض السعر يكون ممكناً لسياسات دعم الليرة بعرض دولارات في السوق أن تساهم بتخفيض سعر الصرف، ولمواجهة جماعات الحرب النفسيّة أن تؤتي نتائجها، وهذا ما حصل أمس.
– في مواكبة المرحلة الأولى من حركة السوق، والتي كان عنوانها تراجع الليرة السورية، لم يتحدث أحد عن الأسباب الموضوعية المالية، بل صار الحديث السائد عن قانون العقوبات الأميركية الجديدة، المسمّى قانون قيصر، وهو بالمناسبة لم يدخل حيز التنفيذ بعد، ومجرد ربط هبوط سعر الليرة به هو تسليم بأن الأمر مجرد حرب نفسيّة، فكيف إذا التقت أقلام أعداء سورية وبعض أصدقائها على التبشير بمراحل سوداء تنتظر السوريين، بين مبشّر بحرب أميركية وراء الباب، ومتحدث عن تفاهم تركي أميركي روسي على تقاسم سورية، وبين مشارك في حملة تشكيك حول علاقة الدولة السورية بحلفائها وثبات هذه العلاقة، وواثق بأن ما يجري هو تمهيد لحرائق متنقلة للتغطية على ضمّ الضفة الغربية ضمن تطبيقات صفقة القرن. وهو أمر من المفيد لفت الانتباه إلى أنه موضع أخذ ورد كبيرين إلى حد ترجيح التراجع عنه خشية نتائج تخرج الأمور عن السيطرة في ظل ما يصيب كيان الاحتلال من أزمات وعجز، وما يشغل السياسات الأميركية من خطط بالخروج من المنطقة.
– في لبنان تستهدف حملة منظمة قرار تمويل الاستيراد الاستهلاكي الرئيسي، بصورة مقننة، من عائدات التحويلات التي تقارب مليار دولار سنوياً ويشتريها مصرف لبنان بسعر 3200 ليرة، ليبيعها لحاملي إجازات استيراد من وزارة الاقتصاد بالسعر ذاته، لأن هذا القرار سحب من مضاربات سوق الصرف الكتلة الرئيسية الضاغطة على سعر الليرة، ولأن نجاح القرار بتثبيت السعر الموازي على سعر الـ 3200 ليرة سيدفع بأصحاب المدخرات الذين يضعون في بيوتهم قرابة خمسة مليارات دولار قاموا بتبديلها على سعر صرف بين الـ 1500 ليرة والـ 2500 ليرة، ليبيعوا بالتدريج مدخراتهم على سعر الـ 3200 ليرة، ما سيوفر عنصر تمويل إضافي لحاجات السوق. وليس خافياً أن نجاح الحكومة في هذا الملف سيُحرج جمعية المصارف في معركتها الوجودية مع الحكومة حول مستقبل الديون والفوائد، لذلك تقوم المصارف بتمويل سوق موازية لشراء الدولارات والضغط باتجاه رفع سعر الصرف، ومعها مستفيدون سياسياً من إضعاف الحكومة، من الحلفاء والخصوم، ولو أنهم يدركون أن لا بديل عنها، فهم يريدونها جاهزة للرحيل فور توافر الظروف، ويعلمون أن كلمة السر في نجاح الحكومة صارت سعر الصرف، ولذلك يعرفون أن نزع الثقة بالحكومة سيساعد على عدم استقرار سعر الصرف، والضرب تحت الحزام يأتي من حلفاء الحكومة، الذين يلقون كل يوم بشائعات عن تغيير حكومي، ويدفعون باتجاه قرارات تأكل من رصيد الحكومة وتهزّ مصداقيتها، وهذه هي الحرب النفسية. فضعف الثقة يزيد الطلب على العملات الأجنبية، وارتفاع سعر الدولار يضعف الثقة أكثر، وكل منهما يتكفل بنزول الناس إلى الشارع ما يضعف الثقة أكثر وأكثر ويزيد تمسك الناس بالسعي للحصول على الدولارات بدلاً من عرض ما لديها للبيع، وهذه هي لعبة منشار الحرب النفسيّة.
– العقوبات قائمة ومؤذية، لكنها تصير فاعلة بقوة الحرب النفسية التي تواكبها ممن يفترض أنهم ضمن المعسكر الذي تستهدفه العقوبات، وربما لذلك قيل، اللهم إحمني من أصدقائي أما أعدائي فأنا كفيل بهم.