هل يشكل التظاهر أداة تغيير؟
ناصر قنديل
– في كثير من الأحيان تحتاج الأفكار التي يتمّ التعامل معها كمسلمات وبديهيات للتدقيق، خصوصاً عندما تبدو أنها وصفة عاجزة عن تحقيق المرجو منها، والمرادفات الرائجة في لبنان منذ 17 تشرين تتركّز على مخاطبة اللبنانيين بلغة التساؤل، ماذا تنتظرون حتى تنزلوا إلى الشارع؟ ومن خلال السؤال وصف النزول للشارع بالثورة، بتوبيخ الناس التي تتحمل أوزار الأوضاع المعيشية القاسية، بلغة أشدّ قسوة من الوضع المعيشي، والواضح أن الاستجابة العفوية التي مثلها نزول مئات الآلاف من اللبنانيين في أسوبع متصل ممتد من 17 إلى 22 تشرين الأول لم يعد من السهل تكرارها، رغم ازدياد الأوضاع سوءا، وارتفاع منسوب تنظيم المجموعات التي تدعو للتظاهر، وغياب آمال حقيقية بقدرة مؤسسات الدولة والقيادات السياسية على إخراج البلد من أزمته السياسية والاقتصادية، خصوصاً أن سقف نظرة الناس نحو الحكومة يتمثل باعتبارها أفضل الممكن، وليست حكومة الحلول، بعدما عادت ظواهر الأزمة إلى السيطرة على حياة الناس اليومية، وبصورة أخص في انهيار سعر صرف الليرة أمام الدولار.
– النقطة الأولى في فهم ما يجري، تبدأ من إدراك أن اللبنانيين لم تنقصهم النخوة ولا التصرف الاستقلالي عن زعاماتهم السياسية والطائفية، عندما خرجوا في 17 تشرين لأسباب أقلّ من التي تضغط عليهم اليوم. فالتحليلات التي ترمي بالتفسير على تصوير المواطن خاملاً وكسولاً أو تابعاً ذليلاً يكذبها مشهد 17 تشرين، والذي جرى فعلياً هو أن المجموعات المنظمة والمؤسسات الإعلاميّة التي قبلت الناس قيادتها لتحرك 17 تشرين أساءت استعمال هذا التفويض الضمني، فصرفت رصيده لتصفية حسابات سياسية كيدية من جهة، وللغة شتائميّة منفرة، ولقطع طرقات ألحق الأذى بالمواطنين، وتموضع على خطوط تماس طائفية، وبرفع شعارات مشوّهة، بعضها لا يتصل بأسباب خروج الناس إلى الشارع، وبعضها لا يصيب جوهر الأزمة في بعده السياسيّ، وبعضها الحسن النية يحمل التظاهر عبء تحقيق ما لا يمكن له تحقيقه. وهكذا تصدرت الشتائم لشخصيات سياسية المشهد الإعلامي للتظاهرات، وطغت الدعوات لإسقاط الحكومة والعهد في ظل بدائل غير قابلة للتحقق وتساؤلات عن نتائجها، وطرحت دعوات لنزع سلاح حزب الله مع العلم المسبق بافتعال الصلة بينه وبين الأزمة من جهة ولاواقعيته من جهة مقابلة. وفي حالات حسن النيّة جرى التطلع لسقوف بحجم ثورة وإسقاط نظام، والسؤال عن الكيف وماذا بعد بدت أجوبته مبهمة، وبدت كلها دفعاً بالناس لخدمة سياسات لا تعبر عنها، وفي حالات منطلقها حسن النية بدت غامضة وغير مقنعة، وبالتأكيد فوق طاقة التحرك الشعبي ودرجة نضجه.
– التظاهر يصلح كوسيلة احتجاج وأداة مطلبية، ويحتاج إلى أمانة الالتزام بحدود الإجماع الضمني للمشاركين، واستثمار التظاهر لمشروع ثورة أمر مشروع لكن بشرط القدرة على السير بتراكم منهجي يبني على الصبر والانتظار، والتدرّج من المطلبي إلى السياسي ضمن فهم عميق ودقيق لموازين القوى والبدائل، وذلك يستدعي احتراماً صارماً لشرطي البعد المطلبي والأمانة لحدود الإجماع الضمني، وهما شرطان تمّ انتهاكهما بقوة وقسوة في 17 تشرين، فتساوى حسنو النية وسيئو النيات، في تحميل التظاهرات سقوفاً وأهدافاً رغماً عن الناس المشاركة فيها، ودون توافق عليها، وفي حال حسن النية، ليست الناس جاهزة للمضي بها، فبدأ الجمع ينضب ويجف تدريجاً، ولم يبق في الساحات إلا أصحاب المشاريع الحسنة النيات والسيئة النيات، وصارت انقساماتهم أقوى حضوراً من الحشود التي كانت تبهر الناظر، وترعب السياسيين الذين يتقاسمون مشهد السلطة بلا استثناء.
– كل محاولة لاستعادة حشود 17 تشرين باتت تحتاج لثقة مضاعفة عما مضى، وهي مفقودة اليوم بحدها الأدنى، بأن هناك شعاراً مطلبياً موحّداً قابلاً للتحقيق، وبأنه لن يتم تجاوزه لحساب عناوين وشعارات ليست موضع إجماع، والشرطان يبدوان أصعب من التحقق، فالمجموعات التي تملك بعضاً من رصيد مشاركتها في 17 تشرين، كل يغني على ليلاه، وكل يدّعي أن ليلاه هي الحقيقة المطلقة، ويضع مشروعه الخاص، سواء كان مشروعه داخلياً أو موحىً به من خارج ما، فوق كل محاولة للجمع، والشعار المطلبي القابل للتحقيق لا يبدو سهلاً، أو على الأقل لا يبدو سهلاً أن يتم التوافق حوله، لذلك فالناس الغاضبة مما تعاني والتي تصل حد الانفجار تتريث وتتمهل في تلبية كل دعوة للنزول إلى الشارع، خصوصاً أن المخاوف من مشروع فوضى أمنية، أو فتنة نائمة ثمة من يسعى إلى إيقاظها، لا تقل عن مخاوف تدهور الوضع الاجتماعي نحو خطر المجاعة.