المغضوب عليهم
} زياد كاج*
نادراً ما نجتمع كعائلة واحدة أمام التلفزيون في البيت خلال السهرات. فالأولاد لهم اهتماماتهم الموزعة بين الهاتف الجوال، ألعاب الكومبيوتر المعقدة التي لا يستطيع أبناء جيلي ممارستها لفقدانه القدرة على التفكير السريع والتفاعل، وأفلام «النتفلكس» التي كسحت السوق خلال فترة الحجر المنزلي الكوروني. زوجتي تعشق المسلسلات التركية وتجد فيها هروبها الخاص. وأنا أوزع اهتماماتي بين الكتب والكتابة ومشاهدة البرامج الثقافية والوثائقية والتاريخية.
زبون «يوتيوب». وزمن الكورونا حبسنا، كغيرنا من العائلات، تحت سقف واحد. قبل هذا الوباء، كنا نعيش كطابات البليارد. الوباء اللعين كبلنا في مثلث المنزل –الخوف – الوقاية.
إذاً نحن عائلة «متشظية ثقافياً»؛ موحدة معيشياً واجتماعياً ونفسياً وفق ما تتطلبه الخلية العائلية الصغيرة كي تستمر وتنمو. هذا عدا عن «الهوة العمرية» بيننا كأهل وأولاد لا يرون الحياة إلا وفق خبراتهم المتواضعة. وهذا طبيعي. فالصغار لا يكبرون بسهولة، أما الكبار، فبإمكانهم العودة الى مرحلة شبابهم وتفهّم معاناة جيل اليوم.
حدث ذات ليلة أن لمّ شملنا المخرج لوسيان بورجيلي أمام التلفزيون لمتابعة فيلمه Heaven Without People ( 2017). اُحب واُتابع السينما اللبنانية على أنواعها وأتوقع لها مستقبلاً زاهراً. صدمني الفيلم الذي صُور بكاميرا واحدة وجرت أحداثه في بيت واحد وبين أفراد عائلة واحدة. مشغول بإتقان بالغ ويتّبع التوتر التصاعدي ويتضمن مشاهد و»قفشات» تعكس حال عائلة لبنانية مسيحية جاء أولادها من السفر للاحتفال بالعيد وتناول الغداء على طاولة الأهل الكريمة. الممثلون غير معروفون، لكنهم أدوا أدوارهم ببراعة لافتة، خاصة الأب والأم والابنة المعارضة والصهر والابن الذي جلب خطيبته للتعرف على العائلة.
كاد هذا الفيلم — على جماليته — أن يُحدث أزمة في بيتنا! فحصل الانقسام مع تصاعد الأحداث. كما اعترضت زوجتي على كثرة أصوات حركة الملاعق والسكاكين والصحون خلال الحوار وحول طاولة الطعام..
عقدة الفيلم فقدان الأم مبلغاً كبيراً من المال. لا تخبر أحداً في البداية كي لا تفسد جمعة أحبّتها وخوفاً على زوجها لأنه يعاني من مرض القلب. الجو العام في غرفة الطعام وحول الطاولة: حديث عن البلد والسياســـة والصـــراع بيـــن الجيل القديم والجديد و»كاسك يا صهر» الذي يبدو أنه أرثوذكسي (يقول الله روم) والعائـــلة مارونية. الجو العام مرح الى أن يغيب الأب لجلب مادة البنزين لموتور الكهرباء. ينتشر خـــبر فقـــدان المبلغ وتتوتر الأجواء وتتكشف المشاكل العائلية بقديمـــها. الصهر يتهم الإثـــيوبية والابن يريد أن يحقق مع الجمـــيع. بعد عودة الأب، يتبـــين أن الأم قد نسيت أنها أودعت المبــلغ فــي المصرف قبل يوم. يكتشف الجميع أن حبيبة أخـــيهم هي في الأصل مسلمة شيعية ومحجّبة على الهوية.
قارب المخرج بورجيلي العديد من المشاكل العالقة والوخيمة في البلد، ومنها مسألة التعصب الطائفي بين البنانيين. مسّني الفيلم لأنني وجدت نفسي معنياً بل متورطاً في أحداثه. فأنا واحد من هؤلاء الذين ينطبق عليهم المثل العامي: «يلي بياخد من غير ملتو، بيعلق بغير علتو». فكل إنسان في هذا البلد يقرّر إنشاء عائلة عبر زواج من خارج طائفته سيكون — وبكل أسف — من «المغضوب عليهم». مثل الفتاة المسلمة الشيعية في الفيلم والابن الماروني.
كبيروتي علماني تزوّجت من مسلمة شيعية منذ 25 سنة فصرت (بعد اجتياح العراق تحديداً) من «المغضوب عليهم. لستُ نادماً على الإطلاق؛ لأن زوجتي وأم أولادي وقفت الى جانبي وواجهنا معاً مصاعب كثيرة. الحمد لله لم يسقط سقف البيت. أنا لا أمزح هنا. كعلماني مؤمن دفعت الثمن غالياً معنوياً وثقافياً. مشكلتي كانت ولا تزال مع المجتمعات المنغلقة على نفسها وليست مع الأفراد. لقد تقبّلت الآخر واستوعبته.. فهل تقبّلني؟ خلال الجلسات الاجتماعية من لون واحد — بغض النظر عن الطائفة — تحوّلت الى إنسان بلا رأي. أهزّ رأسي موافقاً طوال الوقت حتى صرت أشعر أن وجودي يشكل عائقاً أمام حرية التعبير. تحولت مع الزمن حالة منعزلة.
قيل قديماً: «إذا كنت في روما، فعش مثل أهل روما. هذه لعبة المنافقين والانتهازيين وحميلي «البربارة» أينما وجدوا.
أعرف كثراً نالوا لقب «المغضوب عليهم» مثلي. ناس طيبون حولهم البلد بفضل جهل عامته الى أصحاب عقول رمادية أو الى مصدر للسخرية وهدف للتزريك والتنمر المذهبي. صديق تزوج من خارج ملّته (كلاهما علمانيّان)، لكن حين جاء وقت معاملة الزواج الرسمية أصرّ على إتمامها في المحكمة الخاصة بطائفته بسبب عناد والد زوجته! صديق آخر بيروتي تزوّج من درزية بيروتية بعد حب جارف. بعد ممانعة ومعاندة من الأهل تمّ الزواج وأصبحت المسكينة خارج الملة. دام زواجهما وأثمر لأنهما يعيشان في الخارج. الجيد لدى بني معروف عندنا أنهم أقاموا مقبرة خاصة للذين يتزوّجون من خارج الطائفة. «مغضوب عليه» آخر – وهو بروتستانتي من بيروت أحبّ وتزوّج من مسلمة سنية من أصول طرابلسيّة. بقيا معاً. تصوم في رمضان وأحياناً يصوم معها الأولاد!
أعرف صديقاً من بني معروف أحبّ زميلته المسلمة السنية. كانا مثل روميو وجولييت. أمّه أرثوذكسية. اشترط عليه أهل حبيبته أن يتحوّل الى المذهب السني. صديق آخر وهو مسلم شيعي تزوج مارونية. أبحرا الى قبرص وعقدا زواجهما في الجزيرة الجارة. ملعون بحر قبرص. انتهيا منفصلين. لي قريبة لجهة أبي – «مغضوب عليها أيضاً»— أحبّت مسيحي ماروني في فرنسا «فتموْرَنت» وغيرّت اسمها. صديق وزميل من بني معروف أحب مارونية فدخلا القفص الذهبي من بوابة قبرص ليستقر معها في بيئتها المارونية ويمارس هواية صيد السمك كل يوم.
قصص هؤلاء وأمثالهم كثيرة في البلد وفي المهجر. ينجح الزواج بين الأفراد، لكن الثمن الاجتماعي والثقافي وحتى الديني يكون مكلفاً، وبالتحديد بما يخصّ الأولاد. ستطرح الأسئلة الصعبة، وفي بعض العائلات القليلة الحظ ثقافياً، يتحول الأولاد الى مجرد حبل طويل يشدّ به طرفان متناقضان وبقوة. مثلا في الأعياد والمناسبات الدينية، هل يأكل الأولاد المعمول بعد شهر صيام؟ أم يحملون الشموع في مسيرات الشعنينة؟ ماذا عن الانتماء لأبناء «المغضوب عليهم»؟ الجواب قاسٍ والمعركة حامية في عقولهم. ربما هؤلاء سيكون لهم شأن في تغيير نظام البلد.
في الزواج المختلط معاناة ونعيم. المعاناة هي عادة مع المحاكم الدينية وقانون الأحوال الشخصية الذي يمنع توريث مَن هم من خارج الملة. والمعاناة أكثر تكون مع الكبار في السن من كلا الطرفين خاصة إذا كانوا تقليديين؛ يعتقدون أن الكون قد خلق لملتهم فقط. أذكر عندما رزقت بمولودي الأول أحببت أن أسمّيه على اسم صديق لي في رأس بيروت جاء أهله من قرية عين وزين الجبلية: جاد. كنت أسكن في منطقة برج البراجنة وكان كل صباح يأتي الى حينا بائع خضار على العربة. رجل عتيق وظريف، قال لي مرة: «شو هيدا جاد… مش اسم… سميه جواد».
أنا لا أحب الأسماء التي تدل على انتماء طائفي (هذا تقليد عائلي عندنا). لا إسلامياً ولا مسيحياً؛ ولا سنياً أو شيعياً. الناس أحرار. اليوم أذا وقفت في الطريق الجديدة وناديت «يا عمر» أعتقد يردّ عليك كثر، خاصة من جـــيل الشباب. وإذا وقفت في أي شارع في الضاحية وناديت «يا علي» قد يردّ عليك العشـــرات أيضاً. والأمر نفسه في المناطق المسيحية على لحن: «يا جورج… يا طوني..».
بلدية قبرص فاضت ميزانيتها بسبب حالات «المغضوب عليهم» عندنا، والبحر كريم. هذا الى جانب فساد المحاكم الدينية مع تسجيل استثناءات قليلة بين رجال الدين الذين يرفضون دخول بزار اللعبة. أعجب من بلد يقبل ناسه صرف ملايين الدولارات على دور العبادة والشوارع مهملة تسودها الفوضى وتنتشر فيها النفايات؛ والشباب لا يجدون شققاً بأسعار معقولة لتأسيس عائلة وتكميل دينهم — كما يُقال. اٌحبّ الحكمة المعروفية: «الأمكنة لا تمنح القداسة».
بئس بلد يعمل فيه جل رجال الدين على تغذية الأحقاد والكره والتعصـــب والغيـــبيات التي تروق للعامة في لعبة دنيئـــة وخبيثة بالتنسيق مع زعماء الطوائف. بئس بلد يعيش فيه العلمانيون وأصحاب العقول النيرة في حال من الغربة والتهميش.. يعيشون كـ «المغضوب عليهم»!
بعد الحوادث الأمنية والمتنقلة مؤخراً تحت عناوين طائفية ومذهبية (حادثة سبّ عائشة وما تبعها…. والصراخ «شيعة.. شيعة)، أقول إن المخرج لوســـيان بورجيـــلي كان على حــق في فيلمه Heaven Without People. لست بحاجة سوى لكاميرا واحدة لرؤية عورات «مجتمعات» مصابة بعقدة «أن الله خلقها وحدها.. وكسر القالب».
الجنة بلا ناس…. بتنداس؛ إذا وجدت؟
*روائي لبناني.