لبنان: المواجهة ما قبل الأخيرة
زياد حافظ*
تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية تجاه الدولار بشكل مفاجئ وجنوني يستدعي ملاحظات عدّة.
الملاحظة الأولى هي أن ما نشهده في لبنان هو بمثابة المواجهة ما قبل الأخيرة بين محور تقوده الولايات المتحدة لصالح الكيان الصهيوني ومحور المقاومة وحلفائها في لبنان وسورية والعراق واليمن وطبعاً فلسطين. ونقول إنها المواجهة ما قبل الأخيرة لأن الولايات المتحدة استنفدت كل ما كان لديها من عدوان كونيّ على سورية والمحور، من فتن طائفية ومذهبية. وبما أنها لن تتجرّأ على مواجهة عسكرية مع المحور لأسباب عديدة منها عدم الجهوزية العسكرية البنيوية ومنها الأوضاع الداخلية في كل من الكيان والولايات المتحدة ومنها المزاج العالمي الذي لم يعد ليقبل القرارات الأميركية (باستثناء دول الخليج وجزر ميكرونيزيا). لذلك تلجأ إلى الورقة الأخيرة وهي تجويع الشعوب لعلّها تنتفض ضد قيادات محور المقاومة. أما المواجهة الأخيرة فستكون المواجهة التي ستنتهي بالصلاة في القدس إن شاء الله قريباً.
الملاحظة الثانية هي تباطؤ الحكومة اللبنانية في اتخاذ الإجراءات الجذرية في مواجهة أسباب الأزمة الاقتصادية والمالية ساهم في تفاقم الأزمة المالية. اكتفت الحكومة بمعالجة بعض المظاهر بعيداً عن الأسباب. فتلك المعالجة تتطلّب جرأة سياسية لا نتوقّعها من حكومة مسكونة بالهاجس الأميركي الطاغي على حسّها وشعورها بالمسؤولية الوطنية. ولا يمكن إلصاقها بتهمة التواطؤ أو الفساد اسوة بالحكومات السابقة المتتالية منذ 1993 باستثناء حكومة الرئيس سليم الحص بين 1998 و2000. فإطلالات رئيس الحكومة وإن كانت جيّدة وجريئة في المضمون إلاّ أن العبرة تكون في التنفيذ وهذا لم نشهده حتى الآن. لذلك التباطؤ في التنفيذ وفّر الفرصة لفرض المزيد من الضغوط على الحكومة لمنعها من اتخاذ إجراءات تعتبرها الولايات المتحدة مناهضة لمصالح الكيان الصهيوني الذي يتخبّط ايضاً بأزمة داخلية مفصلية. فالضغط الأميركي على لبنان هو أولاً وأخيراً لصالح الكيان وليس لغرض آخر.
الملاحظة الثالثة هي تلازم انخفاض سعر صرف الليرة اللبنانية مع انخفاض سعر صرف الليرة السورية تجاه الدولار. لفترة وجيزة «توحّدت» العملتان تجاه سعر صرف الدولار غير أن الدولة السورية سرعان ما اتخذت إجراءات أوقفت التدهور بل حتى حسّنت قيمة الصرف تجاه الدولار بنسبة حوالي 50 بالمئة عمّا كانت عليه في ذروة التراجع. هذا التلازم مع اقتراب دخول قانون قيصر لمعاقبة الشعب السوري وكل مَن يقف معه دليل على أن المعركة واحدة في كل من سورية ولبنان. غير أن الضعف في الموقف السياسي الرسمي اللبناني من قانون قيصر يجعل لبنان ساحة المواجهة الأكثر «سهولة» نسبياً بين الولايات المتحدة ومحور المقاومة. والتصريحات الأخيرة لمبعوث الادارة الأميركية لسورية جيمس جيفري تزيل أي التباس وغموض عن يقين الموقف الأميركي. فتجويع سورية ومن بعدها لبنان في صلب الأهداف الأميركية لتحقيق ما لم يستطع العدوان الكوني على سورية تحقيقه ولا محاولات الكيان الصهيوني لترويض المقاومة في لبنان.
الملاحظة الرابعة هي أن الميوعة في الموقف الرسمي اللبناني في مواجهة قانون قيصر والناتج عن وضع داخلي هشّ مقارنة مع الحزم في الدولة السورية دليل آخر على ان «التوازنات» الداخلية في لبنان تشكّل البيئة الحاضنة لطابور خامس يعمل ليلاً نهاراً ضد محور المقاومة. فهذا الطابور يستفيد من حرص المقاومة في لبنان على عدم المس بالسلم الأهلي لابتزازها والتحريض عليها في بيئتها لإضعافها والاستحصال على «تنازلات» عجز عن تحقيقها عبر التوتير الأمني المذهبي وعبر الخطر الناجم عن جماعات التعصّب والغلو والتوحّش. فكل هذه الضغوط لم تنفع والآن تصبح الورقة الاقتصادية المالية «الورقة الرابحة» كما يظنّ ذلك الطابور آملا أن ينتفض جمهور المقاومة عليها وآملا أن تتراجع شعبية المقاومة عند مختلف المكوّنات للمجتمع اللبناني عبر تحميلها مسؤولية التدهور المالي. فهذه المعركة التي يخوضها ذلك الطابور، وهو قوي ومحمي داخلياً ودولياً، هي الورقة الوحيدة بيده. وليس من باب الصدف أن تظهر في الآونة الأخيرة دعوات لتجمّعات مذهبية في مواجهة المقاومة، ومحاولة الفتنة في تظاهرات 6/6 واختفاء الدولار رغم «تطمينات» حاكم مصرف لبنان، وأصوات من بيئة المقاومة ترفض الصلاة في القدس مع مجموعة من «المثقفّين» الرافضين لدور المقاومة في الحياة السياسية في لبنان!
لكن جميع هذه المحاولات ستنتهي إلى النتيجة نفسها لمحاولات سابقة أشدّ قسوة من التي يواجهها لبنان اليوم، أي بالفشل الذريع لأسباب عدة. فالسبب الأوّل هو أن موازين القوّة إقليمياً ودولياً ليست لصالح المحور الأميركي والطابور الخامس العامل في الوطن العربي بشكل عام ولبنان بشكل خاص. ومن عناصر ميل ميزان القوّة لصالح محور عالمي تقوده كل من الصين وروسيا في الكتلة الاوراسيّة وفي العالم الحر الرافض للهيمنة الأميركية ككوبا وفنزويلا والجمهورية الإسلامية في إيران ومحور المقاومة في المشرق العربي التماسك السياسي والاقتصادي والتعاون في مواجهة جائحة الكورونا والجهوزية العسكرية لكل مكوّنات المحور والتحرّر النسبي من هيمنة الدولار. فهذه بعض الأسباب وليست كلّها التي تجعل ذلك المحور في تقدّم استراتيجي ينتقل اليوم من الدفاع التكتيكي إلى الهجوم الاستراتيجي.
ثانياً، العزلة المتزايدة للولايات المتحدة والكيان الصهيوني تساهم في كسر التوازن الدولي لصالح المحور المنتفض ضد الهيمنة الأميركية. صحيح أن الكيان الصهيوني يراهن على التطبيع مع بعض دول الخليج كورقته الأخيرة «الرابحة» كما يزعم لكن حتى تلك الدول لا تستطيع تحمّل إقدام الكيان الصهيوني على ضم الضفة الغربية. وجاء مقال سفير دولة الإمارات في واشنطن نشره الأخير في صحيفة يديعوت احرونوت الواسعة الانتشار في الكيان الصهيوني ليحذّر فيه من خطورة ضم الضفة على مستقبل التطبيع. وصحيفة جيروزاليم بوسط الصهيونية أكّدت على أهمية مقال السفير الإماراتي وإنذاره للقيادة الصهيونية عبر المخاطبة المباشرة للجمهور الصهيوني. لذلك الرهان على «نجاح» الكيان الصهيوني في التطبيع كورقة مطمئنة للطابور الخامس هو ما يؤكّد هشاشة المشهد السياسي الذي يراهن عليه الطابور الخامس.
اما العزلة المتفاقمة التي تواجهها الولايات المتحدة فتأتي على أعقاب رفض كل من المانيا وفرنسا تلبية دعوة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لعقد اجتماع مجموعة الـ 7. فمتى كانت تتجرأ المانيا وفرنسا على ذلك لولا الشعور بالضعف البنيوي في القرار الأميركي؟ وفي الأيام الأخيرة حتى الحليف المطيع للولايات المتحدة أي بريطانيا التي كانت في الماضي عظمى نددّت بقرار الإدارة الأميركية في فرض العقوبات على المسؤولين في المحكمة الجنائية الدولية. وهناك دلائل عديدة على عزلة الولايات المتحدة تجعل من إمكانية الالتزام بقانون قيصر، الذي هو أيضا عدوان على العالم أجمع، أمراً مشكوكاً بأمره في الحد الأدنى. فالعالم لن يقبل أن يكون القانون الأميركي فوق القوانين والسيادة الوطنية للدول. كما أن القانون بشكله الحالي الهادف إلى تجويع الشعب العربي السوري هو جريمة موصوفة ضد الإنسانية وإن طبّق فهو جريمة حرب.
ثالثاً، إضافة للعزلة المتزايدة للولايات المتحدة والكيان في العالم رغم بعض الأصوات في الخليج العربي هناك ملفّات داخلية ساخنة جدّاّ في الدولتين لا تؤهّلهما لمواجهة مع محور المقاومة. فلا مواجهة عسكرية ولا حتى قدرة على الاستمرار في مواجهة اقتصادية مالية. فقانون قيصر يهدف إلى فرض العزلة على سورية والعقوبات على كل مَن يتعاون معها. وبغض النظر عن الملاحظات السابقة أعلاه فإن القراءة المتأنّية لذلك القانون تفيد أنه ليس إلاّ ورقة ضغط لتغطية انسحاب الولايات المتحدة من شرق سورية ولحجز مقعد لها في المفاوضات للحل السياسي مع كل من روسيا وإيران وتركيا. ولا ندري على ماذا تستند الولايات المتحدة أن بإمكانها الاشتراك في الحلّ السياسي في سورية الاّ أنها مستمرّة في أوهامها العبثية لأن قطار الحل الذي تريده قد رحل عن المحطة وتركها خالية الأيدي!
أما فيما يتعلّق بالملفّات الداخلية، فالولايات المتحدة تواجه خطر الزوال. نعم، إن الفوضى التي رافقت الاحتجاجات ساهمت في ارتفاع منسوب احتمال انفصالات متعدّدة في عدد من الولايات والمزيد من التفكّك في البنية الاجتماعية. فعلى سبيل المثال ما أقدمت عليه عمدة مدينة سياتل في الشمال الغربي للولايات المتحدة وبالتوافق مع حاكم الولاية، وكلاهما من الحزب الديمقراطي، من اعتبار بعض أجزاء من المدينة خارجة عن سيطرة القوى الأمنية والقوى الاتحادية قد ينذر بحركات مماثلة في مدن الولايات المتحدة التي لم تعد تتفق مع الحكومة الاتحادية. شبح حكومة «الكومون» الشعبية التي تلت هزيمة نابليون الثالث في معركة سيدان سنة 1870 أمام القوّات البروسية عاد إلى مقدّمة الوعي السياسي في بعض الأوساط الشعبية في الولايات المتحدة. كذلك الأمر في مدينة مينيابوليس حيث أقدمت السلطات المحلّية على حلّ جهاز الشرطة. وهناك دعوات في مختلف المدن الكبيرة الأميركية ومنها العاصمة واشنطن تدعو إلى عدم تمويل الشرطة! فمن يحفظ الأمن في المدن؟ فهل الحل سيتم بتأليف لجان محلّية مكلّفة بحفظ الأمن!!!
كما عجز الإدارة الأميركية في مواجهة جائحة الكورونا والتداعيات الاقتصادية التي بدأت تظهر حتى في البورصة التي كانت في ارتفاع مستمر حتى مع توقّف الاقتصاد الأميركي فهي تدلّ على أن الولايات المتحدة دخلت في مرحلة فيها الكثير من الحرج. والانتخابات الرئاسية والنيابية وفي مجلس الشيوخ في تشرين الثاني المقبل قد لا تحصل وإن حصلت فليس هناك من دليل على أن الفريق المهزوم سيقبل بنتائج صناديق الاقتراع. لم يقبل الحزب الديمقراطي والدولة العميقة نتائج صناديق الاقتراع سنة 2016 ولن يقبل بهزيمة ثانية على التوالي. بالمقابل يحذّر الرئيس الأميركي أن خسارته للانتخابات في تشرين الثاني لن تمضي على خير. فأنصاره لن يقبلوا بالنتائج التي سيعتبرونها مزوّرة. فكيف يمكن التحدّث عن انتقال أو استمرار هادئ للحكم؟ والشعب الأميركي مسلّح بشكل مكثّف ومسكون بثقافة فض النزاعات بالقوّة وليس بالتفاوض، ومستاء للحد الأقصى من تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، فهذه عوامل تفجير داخلي لا يمكن الاستهانة بها. والاعتماد على تماسك القوّات المسلّحة قد يكون مبالغاً به خاصة أن العنصرية موجودة في الحامض النووي للمواطن الأميركي. فالتعبير عن العنصرية قد يختلف بين المواطنين لكنه موجود بشكل أو بآخر. كما أن عامل الصراع الطبقي بدأ يدخل في سلوك المنتفضين على الأحوال. فالخليط بين الاستياء من الأوضاع المعيشية على قاعدة طبقية وعلى قاعدة عنصرية وعلى قاعدة ثقافية خطير للغاية يجعل مستقبل الولايات المتحدة كما نعرفها اليوم قاب قوسين!
سبب آخر لفشل الضغوط على لبنان، وإن كان في اعتقاد الإدارة الأميركية وحلفائها في لبنان أنه الحلقة الأضعف في محور المقاومة، فهو أن البديل عن الخيارات التي يريدون فرضها سياسياً واقتصادياً ومالياً موجود. فخريطة الطريق للخروج من الازمة الاقتصادية والمالية وحتى من الفساد البنيوي موجودة وواضحة وممكنة رغم العراقيل التي ستوضع لمنع تحقيق الأهداف. فإعادة هيكلة الاقتصاد اللبناني تتطلّب إعادة هيكلة الدين العام، وإعادة هيكلة الدين العام تطلّب إعادة هيكلة القطاع المصرفي. عدم تنفيذ خريطة الطريق يعود إلى التوازنات الداخلية التي لا تستطيع تحمّل تغييرات جذرية تمسّ بمصالح القيادات. فمصالح الأخيرة فوق أي اعتبار بما فيها المصلحة الوطنية. لقد تمّ اختزال المصلحة الوطنية بمصالح اشخاص ورموز ليس همّهم المصلحة الوطنية، لكن هذا لن يدوم مهما طال الزمن. فعاجلا أم آجلا سيرحلون.
الخطة البديلة هي التي ترعب الإدارة الأميركي وحلفاءها معروفة. وقد عبّر عنها دافيد شينكر وقبله وزير الخارجية مايك بومبيو في زيارته الأخيرة الى لبنان إضافة إلى تصريح جيمس جيفري والسفيرة الأميركية في لبنان. ترسيم الحدود البحرية هو الجائزة الثمينة التي ستُعطى للكيان الصهيوني مقابل فتات مالية مقنّنة قد يقرضها صندوق النقد الدولي.
«الورقة الرابحة» في ظنّهم هو قطع التمويل عن لبنان. هكذا يعتقدون أنهم يمتلكون شرايين المال في العالم. ربما كان ذلك صحيحاً في حقبة ماضية أما اليوم فالمسألة تحتاج إلى نقاش، لأنه بالمقابل هناك خيار التوجّه شرقاً. التململ الدولي من عنجهية الإدارة الأميركية يتفاقم خاصة أن قانون قيصر يمسّ بسيادة وقوانين الدول. فلماذا ستلتزم به؟ والتردّي في المشهد الاقتصادي جعل الابتزاز الأميركي بتهديد المصالح الاقتصادية للدول التي لا تلتزم بقانون قيصر ورقة أقّل فاعلية مما كانت عليه قبل انتشار جائحة الكورونا ووقف العجلة الاقتصادية. كما أن عامل الجغرافيا والتوازنات الجديدة تجعل التوجّه شرقاً أمراً لا مفرّ منه عاجلا أو آجلا. نأمل أن يكون ذلك التوجّه عاجلا لاستعادة العافية الاقتصادية والمالية في لبنان بأسرع وقت.
من جهة أخرى ليس هناك من مبرّر على حمل الدولار في لبنان. فلا مستلزمات التجارة الخارجية تفرض ذلك ولا استحقاقات دين خارجي يفرض على لبنان حجز الدولار لتسديد ذلك الدين. دولرة الاقتصاد اللبناني خطأ وغير مبرّرة، لكن يعود إلى ثقافة عدم الاكتراث بالمصلحة الوطنية عند النخب السياسية الحاكمة وعند جمهورها الذي يعيد إنتاجها كل أربع سنوات! فالشعب اللبناني يحصد ثمن «ثقته» بزعامته الفاسدة التي يجدّدها حتى بعد كل أزمة يمرّ بها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب وباحث اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.