القوميّ الاجتماعيّ هو إنسان النهضة وليس إنسان التطوّر
} يوسف المسمار
عملية الإنقاذ تنطلق من فهم عميق لمجتمعنا في نشوئه وتطوره وكيفية ارتقائه. تبدأ بخلاياه الحية، وتتجه اليه بكل فئاته، منوّرة أبناءه وداعية مجموعه لممارسة الحياة الجديدة الجيدة فلا تستبعد من أبنائه أحداً.
مبدأ «الإخاء القومي الاجتماعي» الذي هو مبدأ الاخاء القومي العام الشامل الذي يضع حداً للجزئيات والعصبيات والأنانيات ويضع حداً لسلطة الأعراف والعادات والتقاليد القديمة البالية الرثة العفنة ليعمم مكانها الإخاء في كل فئات المجتمع.
وجب علينا الآن أن ننبذ انتظار فعل التطور الذي هو حركة تلقائية غير مدركة، ونبدأ بتكريس فعل النهضة والتطوير التي هي فعل وعي وتخطيط عاقل نظامي وهادف.
إننا تتجه وتتوجّه الى كل ذي بصيرة من ابناء أمتنا العلمانيين، وكل ذي وجدان حي سليم، وكل من هو على سوية راقية من الوعي ومن الخُلُق الكريم، لكي ينتمي الى هذه الحركة بكل إرثه من الوعي والفضائل والمناقب مقدمة له نظرة إنسانية جديدة راقية مبدؤها الوعي والهُدى.
إنسان التجدد المُتجدد المُجدد الذي تكوّن به وتتحقق الحياة الجيدة الجديدة المنبثق عنها كل شيء جديد من فكرٍ وشعورٍ وإحساس، وفلسفةٍ وأدبٍ ودين، وعلمٍ وفنٍ وسياسة، وتشريعٍ وإدارةٍ وتخطيط، وخطط ٍ واجتماعٍ واقتصاد وتطلعات راقية، وموسيقى وعادات وتقاليد نافعة.
إنسان المجتمع هذا هو إنسان العقل السليم المنفتح على كل رقيٍّ أيّ الإنسان الروحي المادي أو المادي الروحي الذي يعرف عناصره ومكوناته ولا يتنكر لأي عنصر منها. بل هو مقتنع ومؤمن بأن أساس الارتقاء الإنساني هو اساس مادي روحي – مدرحي. وكل مكابرة بالروحيات او الماديات لا تفيد المجتمع ولا الإنسانية في شيء.
قانون التطوّر
حياة الأمم تخضع لنواميس. ومن هذه النواميس ناموس التطوّر وهو حركة طبيعية تلقائية تنقل الأمة من حال الى حال، ومن وضع الى وضع، فتزداد ألأمة قوة ونموا، ويشتد عودها في سير التاريخ صلابة ومنعة، فتحتل مكانها في دنيا الثقافة والإنتاج، وتأخذ دورها في صراع الحضارات والعمران.
إلا أن هذا المجرى ليس واحداً لجميع الأمم. بل ان لكل أمة خط سيرها وخطط نفسيتها وإن تشابهت جميع الأمم في البدايات، أو تلاقت في الأمنيات والأحلام.
ولذلك فقد تمايزت الأمم في عالمنا بين قويّها وضعيفها، فنما بعضها وكبرَ بفاعلية النموّ وعزيمة الصراع، فأوجد لنفسه مكانا مرموقا بين الأمم. وشارك في حركة الثقافة والحضارة الإنسانيتين، بينما ضعف بعضها وصغرَ بعامل الخمول وفقدان العزيمة والثقة بالنفس ففقد سيادته وتحكمت بمصيره أمم أخرى وسيطرت على مقدراته وإمكاناته وموارده فانتهى فاقد الأهلية في عالم ليس فيه لغير الأقوياء مكان.
قانون الصراع الإنساني
لكن ناموس التطور ليس وحده الحاسم في حياة الأمم، بل يشاطره في ذلك الحسم قانون آخر هو قانون حركة الصراع والتقدم الإنسانيين الذي يجعل من الإنسان جانباً سلبياً في مواجهة الطبيعة. فلا يكتفي بالانفعال بل هو يتفاعل وينفعل ويفعل، فيكون للأمم الفاعلة غير مصير الأمم المنفعلة. ويكون للأمم المنكوبة المستسلمة غير مصير الأمم المنكوبة الناهضة.
وفي مواجهة الكوارث والنكبات تُمتَحنُ الأمم في إصالتها وفي مواهبها وفي قدراتها فتتمايز وتتنوّع. فحيها يصمد ويواجه ويصارع وينتصر. وميتها ينهار ويستسلم ويخضع ويموت.
الأمم الحيّة المنكوبة تنهض بقانون الصراع
وإنقاذ الأمم الحية الجميلة النفسية، والعظيمة المرامي والمقاصد لا يتحقق إلا بممارسة البطولة المؤيدة بصحة العقيدة كما أوضح المعلم أنطون سعاده حين قال: «وقد تأتي أزمنة مليئة بالصعاب والمحن على الأمم الحية، فلا يكون لها إنقاذ منها إلا بالبطولة الواعية المؤمنة المؤيدة بصحة العقيدة. فإذا تركت أمة ما اعتماد البطولة في الفصل في مصيرها، قرّرته الحوادث الجارية والإرادات الغريبة».
ولأن أمتنا نكبت بأعظم ما تكون النكبة من غياب الوعي، وفقدان السيادة، وتفتت المجتمع، وتفسخ الوطن، والائتمار بمقررات الأعداء، والدوران في أفلاك المستعمرين، فإن القول المتقدم هو أول ما يجب أن نفهمه الآن، ويرافق وعينا في كل آن. وبه يجب أن يعمل جيلنا الحاضر وكل أجيالنا القادمة. وبغير ذلك فإننا نسير من سيئ الى اسوأ، ومن أسوأ الى أسوأ منه مُعرضين بذلك أمتنا الى أحد مصيرين قاتمين قاتلين هما: إما الذوبان في مجرى نهضة أمة حضارية قوية، وإما الدوران في فلك تبعية أمة من الأمم.
الأمم التي تتنازل عن حقها في النهضة تموت
باستسلامنا وتقاعسنا نكون قد تنازلنا عن حقنا في الحياة والحرية، وأعطينا الدليل الأكيد على أننا غير جديرين بالحياة الحرة العزيزة، ولا نستحق أن نكون من أبنائها.
إن أبناء الحياة العزيزة هم الواعون المؤمنون المصارعون المُنطلقون من معرفة قضيتهم، والعاملون بالإيمان العظيم الذي فيهم، من أجل تثبيت قِيمهم ومناقبهم في صراع الانتصار والتفوّق.
إنهم أولئك الذين يعرفون كيف يلجون أعماق تاريخ أمتهم، فيستمدون من مواهبها الأصيلة روح نهضة مجتمعية تفعل في المجتمع هزاً وإيقاظاً وتفجيراً، وتتحقق به وفيه حياة ً متجددة ً جديدة ً جيدة بكل ما تتضمنه هذه الحياة من وعي وإيمان ومعرفة ومناقب وفضائل ومثل، وتتجسد في حركة عقلية نظامية نهضوية.
حركة النهضة هي المُختَبر
إن حركة عقلية نظامية نهضوية هي وحدها التي تعبر عن النهضة وعما تطمح اليه، وهي المختبر لصهر الطاقات والإمكانيات الاجتماعية، وهي هي الممر الإجباري لخلق وتكوين ونشوء إنسان النهضة المعبِّر حقيقة عن الإرادة الشعبية العامة، لا الممثل لها في عمليات تسويات ومساومات. وبدون هذه الحركة النظامية النهضوية الواعية، لا يمكن لأمتنا الحضارية المنكوبة أن تجد طريقة إنقاذها، ولا يمكن أن يكون لها مكان ودور بين الأمم ومن أصعب الصعوبات أن تدرك تحقيق أغراضها ومقاصدها الكبرى في الحياة.
انتظار التطوّر عاملٌ مُدَمّر
إنَّ الذين يملأون مسامعنا كل يوم قولاً وكتابة وإعلاماً ودعايةً بكلمة «التطور»، ويدعوننا لانتظار فعل التطور الذي سيغيّر معالم حياتنا، فاتهم والتبس عليهم أنه إذا صح َّ أن يكون التطوّر مثمراً منتجاً في الأمم التي لم تُنكب بتدمير حضارتها، فإن انتظار فعل التطور هو أكبر عوامل تدمير الأمم المنكوبة بتشويه نفسيتها، ومسخ عقليتها، وتفتيت كيانها. ومصيبتنا الكبرى هي بحملة الشهادات والإجازات المدرسية من أبنائنا الذين يتباهون بالإجازات والشهادات، والمخدرون بكلمة «التطور»، والمسحورون بها بسبب ما فعلت فيهم الثقافة المدرسية الزائفة المستوردة المضللة حين خرّبت نفسياتهم، وعطلت مجاري تفكيرهم، وقتلت فيهم روح المبادرة والإبداع، والاستقلال الروحي، والشعور بالعزة، فاستسلموا للأمور المفعولة المفروضة مُعطلين بذلك فعالية الحياة فيهم، كأنما هم دمى متحركة في واجهات المتاجر والمخازن وظيفتها استلفات انتباه المارة وإضحاكهم.
الغزاة المتوحشون طمسوا وجه حضارتنا
إننا أمة شوَّه الغزاة البرابرة المتوحشون نفسيات أبنائها وليس أخطر علينا اليوم من انتظار فعل «التطور» لأن الستة قرون الماضية التي مرَّت على أجيالنا، حيث عاش إنساننا خلالها مُعلباً في قوالب الأنانية والعرقية والطائفية والمذهبية والعشائرية والمناطقية ومحاباة الغزاة والسمسرة والخداع قد حوّلت خط سيرنا الحضاري، ومسخت نفوس الكثيرين من أبناء أمتنا، وعطلت فعالية عقلنا الخلاق، حتى خيلَ للعالم أننا الأمة التي انتهت والى الأبد. وهذا ما سهلَ للمستعمرين الغزاة المجرمين ان يمعنوا في تقطيع جسم أمتنا المريضة المنكوبة في أخطر وأبشع وأجرم عملية تشويه عرفتها الإنسانية في كل أدوار تاريخها بحيث لم يظهر فيها نبض يشير الى بعض أمل في الحياة باستثناء بعض التململ الذي كان يحصل من وقت لآخر فيزيدونه تخديراً بغية استكمال العملية التشويهية البشعة التي مزقتنا أمة ً ووطناً، لتقيم على أنقاض الأمة عقليات مُتنافرة مُتباغضة مُتحصنة بأمراض الأنانية والعرقية والإقطاعية والطائفية والغباء، ولتجعل من الوطن مداخل عتبات لأحذية اليهود الصهاينة والمستعمرين الغزاة الهمجيين، وكل الأعداء المتربصين.
الإنقاذ النهضويّ
يجب على حركة الإنقاذ النهضوية الواجب قيامها في أمتنا أن تبحث وتفتش عن الخلايا الحية في جسم أمتنا المشوّه لتبدأ من تلك الخلايا الحية بالذات بتعميم الحياة العزيزة في جسم الأمة كلها، كما يجب عليها أن تكون مختبراً لصهر الخلايا الحية فقط وإطلاقها لتفعل فعلها.
عملية الإنقاذ تنطلق من فهم عميق لمجتمعنا في نشوئه وتطوره وكيفية ارتقائه. تبدأ بخلاياه الحية، وتتجه اليه بكل فئاته وطوائفه ومذاهبه وأصوله ومناطقه واتنياته وكل أجياله، منوّرة أبناءه وداعية مجموعه لممارسة الحياة الجديدة الجيدة فلا تستبعد من أبنائه أحداً، ولا تتنكر لمذهبٍ من مذاهبه، ولا تنصر فريقاً على فريق، ولا تتهاون بحق أحد لأنها تقوم على مبدأ جدد هو مبدأ «الإخاء القومي الاجتماعي» الذي هو بالضبط مبدأ الاخاء القومي العام الشامل الذي يضع حداً للجزئيات والعصبيات والأنانيات ويضع حدا لسلطة الأعراف والعادات والتقاليد القديمة البالية الرثة العفنة ليعمم مكانها الإخاء في كل فئات المجتمع، وبين جميع أبناء المجتمع حيث لا فضل لأحد على أحد إلا بقدر ما ينتج ويُبدع ويمارس ويعمل لخير المجموع وسعادة الأمة ورقيّ أجيالها القادمة.
وإننا نرى أن التشكيلات الشخصية والفئوية التي ظهرت في بلادنا بعامل الخوف والتخويف هي مرض يمكن اجتثاثه وهي ليست سوى الحصون الأخيرة المتمترسة فيها قوى الرجعة المدعومة من الإرادات الأجنبية العدوة التي أنشأتها يوم خرج شعبنا من قوالب الاستعمار العثماني ومعلباته الكريهة وسمومه البغيضة حيث أصابه ما أصاب جماعة أهل الكهف الذين استيقظوا بعد غفوتهم الدهريّة ليستغربوا كل شيء، وليستهجنوا كل شيء، وليتنكروا لكل شيء يدور حولهم كما تروي قصتهم.
واقع مجتمعنا
إن مجتمعنا المنكوب مصاب بمرض خطير. وعلى الحركة النهضوية أن تنقذه مما هو فيه. فهو يتحرك بالعقليات المتنافرة المتنابذة. ويعمل بالنفسيات المتعصبة المتباغضة. يرى الطائفية العمياء المخرِبة ديناً مُنزلاً. ويفهم العرقية الفاسدة المفسدة أساساً للشرف والكرامة. مُسلموه المسيحيون معقدون بمسلميه المحمديين. ومسلموه المحمديون ممروضون بمسلميه المسيحيين. ثقافة أبنائه العلمانيين الزائفة ترفض ثقافة أبنائه المتدينين، وثقافة أبنائه الدينيين المشوّهة تتهم بالكفر كل من لا يخضع لتشوهها. أممه بعدد بقايا أقوامه المنقرِضة المُتحجرة. وبقايا أقوامه المتحجرة مُتَخذة حجة لتعدد أممه.
الانكماش في بعضه عقدةُ الخائفين العاجزين. والانفلاش في بعضه الآخر عقدة المهووسين الحالمين. حقيقة واقعه أكثرية وأقليات، وواقع حقيقته بؤرة أمراض وعاهات ومفاسد وتشوهات. إنه فسيفساء أنظمة، وفوضى مفاهيم، وتخبط نظريات، وتشنج عصبيات، واضطراب أفكار ومشاعر.
لكل الاسباب المتقدمة كانت مهمة المنقذين صعبة جداً، وكانت مسؤولياتهم متعددة وجسيمة وكبيرة، وهي تحتاج الى كفاية من الوقت لأن «الوقت شرط ضروري لكل عمل عظيم». إلا أنه على الرغم من صعوبة المهمة، وجسامة المسؤولية، وضرورة توفر الوقت، فإن طريق الإنقاذ الوحيدة لا تكون إلا بالمبادرة والتصدي والابتداء.
كيف نبدأ وماذا نريد؟
علينا أولاً أن نبدأ من معرفتنا لهويتنا عن طريق عودتنا الى الجذور، وعن طريق الرؤية الشاملة لتاريخنا. فلا نبدأ بهذا التاريخ من حيث يستذوق البعض أن نبدأ. بل نرى تاريخ أمتنا على حقيقته ونرى أمتنا على حقيقتها التي هي: «وحدة الشعب المتولدة من تاريخ طويل يرجع الى ما قبل الزمن التاريخي الجلي» على هذه البقعة المميزة من الأرض التي هي أرضنا، وفيها، والتي كانت وما زالت مسرحاً لنشاط أمتنا في تعاقب أجيالها، والتي نشأت عليها حضارتنا وتحضن تراثنا، والتي عليها وعلى بقائها ودوامها لنا يتوقف مصيرنا ودوام ورقي أجيالنا الآتية.
ونرى أيضاً أن شعبنا في نشوئه وتطوره وارتقائه لا يتحدر من سلالة معينة، بل يتألف ويتكوّن من مزيج سلالي متجانس ممتاز. يشهد له التاريخ بأسبقيته في الحضارة وفي العطاء الثقافي الفكري التمدني الراقي.
ويروي لنا كيف جمّده الغزاة البرابرة المتوحّشون وحوّلوا خط تطوره من التقدم الى التقهقر، فوجب علينا الآن أن ننبذ انتظار فعل التطور الذي هو حركة تلقائية غير مدركة، ونبدأ بتكريس فعل النهضة والتطوير التي هي فعل وعي وتخطيط عاقل نظامي وهادف.
والنهضة التي نريد تحقيقها لا يمكن أن تكون أو تقوم الا بتجسّدها الفعلي العملي في حركة عقلية نظامية مناقبية مصارعة باستمرار «تستمدّ روحها وقوتها من مواهب الأمة وتاريخها الثقافي الحضاري».
والتركز على ما تبقى من الخلايا الحية في جسم الأمة المشوّه في كيانه المادي، وذاتيته الروحية، ووحدته المادية الروحية وتفسخه الفردي والاجتماعي لتبدأ منها ومنها بالذات بإنعاش خلاياها الحيّة، والعناية بها، وتعميم الحياة الجيدة الجديدة والبعث القومي الاجتماعي الجديد، وإيقاظ المُثل العليا التي لا رقي للأمم الا بها.
فترى مثلاً في مواقف أبطالنا وشهدائنا منارات حياة تستطيع إشعاعاتها أن تدبّ في جسم الأمة كلها وعياً جديدا، وإيمانا جديدا، وصراعا تقدميا لا يقبل لنموّه وتصاعده ورقيه حدوداً.
كيفية عمل حركة الإنقاذ النهضوية
وهذه الحركة النهضوية الإنقاذية المؤهلة لتوعية المجتمع وتحريره وإنقاذه وقيادته وترقيته هي المختبر لصهر طاقات الشعب كله في وحدة نظامية عقلية أخلاقية تكون مخرجاً حضارياً تمدنياً مناقبياً لجميع بقايا الجماعات المتمترسة في قوالبها المتحجرة، وأشكالها المتخلفة، ومؤسساتها العتيقة البالية.
والحركة النهضوية بهذا المعنى وعلى هذا المستوى الراقي لا يجوز لها أن تدعو إلى لمّ الناس وتجييشهم وجمعهم كيفما اتفق، وبأي وسيلة أمكن فتضم مثلاً الأنانيين وغير الأنانيين، والفئويين وغير الفئويين، والمرتزقة والصادقين، والنفعيين والأشراف من مسلمين مسيحيين ومسلمين محمديين وعلمانيين غير مسلمين وغير محمديين ومتدينين وغير متدينين في تسوية على غرار التسويات والمصالحات الطائفية والعشائرية والشخصية التي جرت في بلادنا والتي كانت وما تزال سبباً من أسباب ويلنا وبلائنا وتخلفنا وضعفنا وتفتتنا وتعاستنا وسوء حالنا.
وإنما يجب على حركة الإنقاذ النهضويّة أن تتوجّه، بوعي ومناقبية وإخلاص والتزام بقضية تحسين حياة ومصير الأمة وتجويد حالها، الى كل عقول مواطنينا ونفوسهم وضمائرهم، فتناشد وتنادي وتدعو كل مواطن مسلم مسيحي واعٍ ومناقبي ليأتي اليها وينخرط في صفوف أعضائها، ويعمل بمبدئها القومي الاجتماعي الإخائي العام الموحِّد لا المُفتت، حاملاً الى هذه الحركة كل ما حوته وتضمنته وهدفت اليه الرسالة الإسلامية المسيحية من قيَم وفضائل ومناقب ومعارف سامية بحيث تتحول كل هذه القيم والفضائل والمناقب والمعارف لتصبح قيماً وفضائل ومناقب ومعارف لكل أبناء الأمة وليست فقط محصورة بالمسلمين المسيحيين وحدهم. وهي لا تشترط على هذا المواطن المسلم المسيحي إلا احترام عقائد أبناء الأمة الآخرين، والتخلي عن كل ما علق بالمسيحية المذهبية من القشور المشوهة، والاشكال المزيفة، والافكار الدخيلة المسممة التي كانت تشويهاً لرسالة السيد المسيح وروحها السمح المحب الإلهي والإنساني العظيم.
وهذه الحركة النهضوية الإنقاذية تدعو في الوقت ذاته وتناشد بالطريقة ذاتها كل مواطن مسلم محمدي ليأتي اليها وينضم الى صفوف أعضائها ويعمل بمبدئها القومي الاجتماعي الإخائي العام المُوحد لا المفتت حاملاً اليها كل ما حوته وتضمنته وهدفت اليه الرسالة الإسلامية المحمدية من قيم وفضائل ومناقب ومعارف سامية، بحيث تتحول كل هذه القيم والفضائل والمناقب والمعارف السامية لتصبح قيماً وفضائل ومناقب ومعارف لكل أبناء الأمة وليست فقط محصورة بالمسلمين المحمديين وحدهم، ولا تشترط على هذا المواطن المسلم المحمدي إلا احترام عقائد ابناء الأمة الآخرين والتخلي عن كل ما علق بالإسلام المحمدي المذهبي من القشور المشوهة والاشكال المزيفة، والافكار الدخيلة المسممة التي كانت تشويهاً لرسالة النبي الكريم محمد وروحها السمح الرحيم الرحماني الإلهي والإنساني العظيم.
انها بشكل آخر، تتجه وتتوجّه الى كل ذي بصيرة من ابناء أمتنا العلمانيين، وكل ذي وجدان حي سليم، وكل من هو على سوية راقية من الوعي ومن الخُلُق الكريم، لكي ينتمي الى هذه الحركة بكل إرثه من الوعي والفضائل والمناقب مقدمة له نظرة إنسانية جديدة راقية مبدؤها الوعي والهُدى، ومجالها المعرفة والعلم، ونشاطها ممارسة الحكمة والاخلاق الكريمة والصراع الفكري الحر النافع، وأهدافها ومراميها مُثل عظيمة تتوالد باستمرار، وتتسامى من سماء الى سماء، ولا تعرف ولا تقبل لسماواتها نهاية.
هذه هي حركة الإنسان النهضة التي تتعانق فيها وتتفاعل وتتوحّد كل هذه المزايا والقوى من المعرفة والفضيلة والمحبة والرحمة في بوتقة الإخاء القومي الاجتماعي، حيث يمكنها في تفاعلها أن تنمو، وتُبرعم، وتورق، وتُزهر، وتُثمر، وتَنضج، وتُبشّر بولادة الإنسان النهضوي الصالح الجديد.
فيتكون بهذا التفاعل الواعي الفضائلي المناقبي جنين مولود الإنسان الجديد. إنسان النهضة والفعل والتطوير. وليس إنسان السكون والانفعال والتطور.
إنسان الإرادة الإنسانية العاقلة الفاعلة. وليس إنسان اللاإرادة الغافلة المنفعل.
إنسان التجدد المُتجدد المُجدد الذي تكوّن به وتتحقق الحياة الجيدة الجديدة المنبثق عنها كل شيء جديد من فكرٍ وشعورٍ وإحساس، وفلسفةٍ وأدبٍ ودين، وعلمٍ وفنٍ وسياسة، وتشريعٍ وإدارةٍ وتخطيط، وخطط ٍ واجتماعٍ واقتصاد وتطلعات راقية، وموسيقى وعادات وتقاليد نافعة… الى ما هنالك وما يمكن ان ينشأ من المظاهر الحياتية الاجتماعية المُتنوعة والمتعددة. وكل ما دون ذلك باطل، وهراءٌ في هراء.
ملامح إنسان النهضة الجديد
إن هذا الإنسان الجديد. إنسان النهضة المتولد من عملية تفاعل الوعي والفضائل والمناقب مع الوعي والفضائل والمناقب هو وحده الذي يعبّر عن بزوغ روح ناهضة جديدة مُتحرّرة من كل فكر خصوصي جزئي أناني بغيض، ومُتجهة الى تحقيق حالة نهضوية عامة في كل مناحي حياة مجتمعنا، وموقظة في جميع نفوس أبناء المجتمع وحدة روحيةً عامة شاملة لا ترتكز على حقيقة فرديّة أو جزئيّة أو مجموعيّة بل ترتكز على الحقيقة الإنسانية الكلية. حقيقة الإنسان المجتمع الذي يحضن الفرد ويحضن الفئة ويحضن الشريحة ويحضن الطائفة ويحضن المجموع.
إنه الإنسان الإنساني العام الحاضن لجميع ابنائه، والشامل لجميع أجياله. والمتفاعل مع أرضه عبر التاريخ، والمنشئ الحضارة في دورات ومراحل، والمتطلع الى معرفة المزيد من الرموز والأسرار واكتشاف المستور من مجاهل الكون.
وإنسان المجتمع هذا هو إنسان العقل السليم المنفتح على كل رقيٍّ اي الإنسان الروحي المادي او المادي الروحي الذي يعرف عناصره ومكوناته ولا يتنكر لأي عنصر منها. بل هو مقتنع ومؤمن بأن أساس الارتقاء الإنساني هو اساس مادي روحي – مدرحي. وكل مكابرة بالروحيات او الماديات لا تفيد المجتمع ولا الإنسانية في شيء، لأن قيمة الروح الإنسانية الحقيقية هي في تجسدها حركة وفعلاً، وقيمة المادة الإنسانية الحقيقية هي في تألقها فكراً وابداعاً وفناً.
ولأن الإنسان النهضة هو الإنسان المجتمع الذي هو إنسان عقل مبدع، فإنه حتماً هو إنسان مناقب وقيم واخلاق، ومفاهيمه هي مفاهيم إنسانية خُلقية راقية سامية شاملة كل المجتمع، فهو اذن إنسان إنساني عالمي لا يحب للعالم أجمع بإنسانيته ومناقبيته وقيمه وأخلاقيته الا الرقي والتقدم وكل ما يريده لنفسه.
الحرية في مفهوم إنسان النهضة
ان الحرية مثلاً في مفهوم إنسان النهضة والتطوير العاقل هي حرية مجتمعية قومية تتشعب في المجتمع أفقياً لتنتشر في الجيل الحاضر كله، وتمتدّ عامودياً بحركة خلفية وأمامية متغلغلة في الأجيال الماضية، متحفزة تائقة الى الأجيال المستقبلة. ومتوسّعة على كل أرجاء الأرض لتشمل الأمم جميعها.
وبهذا المفهوم لم تعد حرية الفرد كما هي في الأنظمة الديمقراطية الفردية تقف عند حدود حرية الفرد الآخر ليصير في المجتمع عدد الحريات بعدد الأفراد، بل أصبحت حرية الفرد في المفهوم الجديد تتكامل في تشعبها وامتدادها في كل المجتمع بحيث لا تكتمل حرية الفرد إلا في امتدادها بحرية جميع أفراد المجتمع جميعهم. ولا تتألق حرية مجتمع الأمة الا بعلاقاتها الودية الإنسانية واحترامها لحقوق جميع الأمم وحرياتها. فالحرية حق إنساني عام وليست من الحقوق الخاصة.
وبهذا المفهوم الجديد تنتفي وتزول مفاهيم الإكراه والتسلط في المجتمع، وتسقط مفاهيم الاستعلاء والدونية، ليبرز المجتمع كله أمةً واحدة ً تامة ً كاملة ً حرة ً لا تسمح بأن تنتقص حريتها ولو بعبودية واستعباد فرد ٍ واحد ٍ من أبنائها. ولا تقبل بأن يشوّه وجه حريتها كأمة بالاستهانة بحرية أية أمة من الأمم.
هذا هو مفهومنا لإنسان النهضة الحر. إنسان الأمة الحرة التي جميع أبنائها أحرار. وهذه هي رسالة الإنسان القومي الاجتماعي الناهض لنفسه وأصدقائه وأخصامه وأعدائه وسائر المجتمعات البشرية. ولا قيمة للأحرار إلا إذا كانت أمتهم حرة.
مقومات الحرية القومية الاجتماعية
والحرية الحقيقية لا تكون للضعفاء بل تكون للأقوياء. فبدون قوة روحية مادية لا وجود لحرية ولا نهوض للأحرار.
والأقوياء لا يكونون فوضويين بل هم النظاميون. وكل حرية بدون نظام أخلاقي هي تفلت في بيداء الفوضى.
والنظاميون ليس من شيمهم الخمول ولا يحق لهم أن يكونوا متخاذلين ويقصّرون عن القيام بواجباتهم بل تسألهم نفوسهم عن تقصيرهم قبل أن يسالهم الآخرون لأن كل نظام يُهدر فيه الواجب معرض للانهيار ولا يمكن أن يستمر نظاماً.
والمسؤولون الذين يمارسون واجباتهم بوعي على أحسن ما يكون ويقومون بكل مستلزمات النهوض هم الواعون النظاميون الأحرار الأقوياء. وكل مسؤولية لا تكون بالوعي والنظام والواجب والقوة لا يمكن أن تكون حرية.
والمسؤولون عن النهوض ليسوا عبيداً لا يعلمون ماذا يفعلون. بل هم الأحرار بوعيهم الذين يبنون دولة العدالة القائمة على الحق والهادفة الى التقدم والرقي، والعاملة من أجل سلام المجتمع الذي في سلامه سعادة الإنسان في حياة كلها محبة ورحمة وأخوة وارتقاء وسُموّ.
الإنسان النهضة نواة الإنسان العالمي الحضاري
إنسان النهضة المجتمعي هذا الذي نريده ان يتكون ويتحقق في مجتمعنا هو ما نريده ونعمل من اجله، وهو هو بالذات النواة الحقيقية الدينامية القدوة لولادة الإنسان العالمي الناهض الحضاري الذي هو خلاصة تفاعل وتعاون وتناغم حركات رقي الأمم ونهضاتها، وليس استعباد قويها لضعيفها، وثريّها لفقيرها بل هو موقظ عوامل القوة والنشاط في كل المجتمعات، ومحرك النفوس الطامحة الى الخير العام في جميع الأمم، وناشر ومعمم عقيدة الخير والصلاح في اجيال الإنسانية الى ما سوف تكون الإنسانية في مراحلها وأزمنتها المقبلة.
هذه بعض ملامح الإنسان النهضة القادر وحده بوعيه واخلاقه وارادته وحريته وقوته ونظاميته أن يقوم بواجبه ويتحمل مسؤولياته فيمحو ما لحق بنا وما يلحق وما سيلحق من عار، وهو نفسه الإنسان المجتمع الذي نكون به أمة ً واحدة ذات نفسية واحدة، وارادة واحدة. فلا نركن ابداً لتطور تلقائي بطيء، ولا ننتظر تغيرات ظروف، ولا ننام على أحلام وعود، ولا نرضى سلام القبور، ولا نقبل إلا أن ننتفض ونثور ونسير بإرادتنا لتغيير واقعنا، وتحقيق أغراضنا ومُثلنا العليا، فنكون بذلك جديرين بمجد الحياة العزيزة، ونظفر برضى العناية التي ما وهبتنا قوى العقل إلا لنكون أسياد الوجود والكون.
هذا هو الإنسان القومي الاجتماعي النهضوي الجديد الذي دعا اليه المعلم الشهيد أنطون سعاده حين وضع عقيدته وأسس الحزب السوري القومي الاجتماعي ليرعى نموّه من بعده.
وبما ان «المجتمع معرفة والمعرفة قوة» كما أوضح سعاده، فلم يترك القوة بدون توضيح بل قال عنها ان «إن القوة قوتان: مادية ومعنوية وإهمال الواحدة يُسبب هلاك الثانية. وقد كانت القوة في الأصل مادية بحتة ثم أخذت تتطور بدخول الفكر البشري وارتقائه حتى أصبحت معنوية أيضاً، وأصبح الفكر أعظم من المادة، فكثر اعتماد الأمم الحيّة على الفكر الذي هو قوة غير محدودة. ولما كانت الصحافة أهم الوسائل في تنمية القوة الفكرية في الأمم كانت العناية بالصحافة من أهم شؤونها الحيوية».
وبهذه القوة غير المحدودة نشأ إنسان النهضة بالفكر النامي الواعي المنير الفاعل فحرّك قوة المادة الجامدة العمياء المنفعلة وفعّلها وسخّرها لمقاصده الراقية في الحياة ومثله العليا الجاذبة الى التسامي، وانتقل من مرحلة التطور الطبيعي البطيء الذي لا ارادة للإنسان فيه الى مرحلة التطوير العاقل الإنساني الهادف السريع وأصبح إنسان نهضة فاعل، وليس إنسان تطور منفعل.
إنه إنسان النهضة والتطوير والتجديد والحداثة والعصرنة، وهذا هو القضاء والقدر الذي أراده الله حين وهب الإنسان العقل، وليس إنسان التطوّر البطيء، وانتظار الظروف، والاتكال على الصدف، والركض وراء سراب المنى، والاستسلام للحظ، وخمول المتخاذلين، وشفاعة همم الموتى.
هذا هو الإنسان المجتمع. إنسان نهضة الأمة السورية. الإنسان السوري القومي الاجتماعي الجديد المدرحي القدوة والممهّد لولادة إنسان الإنسانية العالمي الذي تطمح البشرية جمعاء اليه وليس الى انتظار نصرة إنسان دولة متوحشة كاسرة تدّعي الدفاع عن الحقوق الإنسانية وتحرّكها روح شريرة يتغلغل فيها ألف شيطان.
ملاحظة:
محاضرة القيت في لقاء لمكتب الطلبة عام 1967.