التشكيليّة ماريان فوكوفيتش تنجح في العبث بماهية اللون ومنتهاه الأساسيّ في التجريد والانطباع
} طلال مرتضى*
لا شكّ في أن في كل عمل فنّي امتحان جديد لذات القارئ، وذلك لان عدة القراءة ومفاتيحها تختلف كل الاختلاف من عمل فنّي الى آخر. لذا فمن الصعب فتح اكواد عمل بالمفاتيح ذاتها او قواعد التجريب النقدي القرائي التي قد جرى تطبيقها على لوحة اخرى من قبل..
فاللوحة الفنية التشكيلية، هي وحدة كاملة ومحصّنة، لا يمكن دخولها وفتح بابها العالي الا بمفتاحها الخاص بها.. بغض النظر ما إذا كان هذا المفتاح مشابهاً أو يحمل الماركة ذاتها..
من السهل عليَّ فك اكواد اي عمل فني تكون دلالة اشاراته بعيدة، مثل رسم المدى البعيد او ملامح سفينة غارقة في سديم البحر او منظر الصحراء الممتد وغيرها من الامثلة المتنوّعة، على عكس اللوحة ذات الفكرة القريبة، القريبة جداً الى حدّ ملامستها بالنظر، وبمعنى آخر هو ان يترك الفنان فكرته وبشكل مباشر بين يديك ويدفعك لقراءتها، ومنها على سبيل المثال، امراة تدير لك ظهرها الذي يمكنك رصد الكثير من تفاصيله الدقيقة او محاولة النظر في عين الشمس من دون الارتطام بانعكاس خيوط اشعتها…
بعيداً عن الاعمال الفنّية التي تذهب نحو الايهام والتي يتم بناؤها من خلال استعمال طبقات لونيّة سميكة وكثيفة، لا تستجيب بالمطلق لحركة فرشاة الرسم العادية والتي تترك بدورها للقارئ الفني منفذاً قرائياً من خلال الحركة او البور واللطخات اللونية التي تتجسّـــد بشـــكل عفـــوي او قصدي على صدر اللوحة، ذلك التكـــنيك او الاســـلوب الذي يعتمد في الغالب وبدل الفرشاة على اصابع الفنان وهو ما يتيح لقماش اللوحة ان يتشبّع من زيت او ماء الالوان، وفي هذه العملية نجد انفسنا امام مفارقة كبيرة بين التشكيل بالفرشاة وبين عملية اشباع اللوحة بالاصابع، فالطريقة الاولى يمكن للناقد الفني قراءتها بسهولة ومقاربتها من خلال ادوات النقد العادية، كالمفاتيح والاشارات والدلالات.
اما الطريقة الثانية، فهي تخضع لمعايير قرائية مختلفة كليّاً عن سابقتها، وذلك لانها تندرج تحت عتبة القراءة الحسيّة ويعود هذا لعلاقة الشراكة القريبة بين الفنان ولوحته التي اكلت وشربت من اصابعه بشكل مباشر، وهو ما اتاح للفنان ان يتحسّس مواضع العطش والفراغ على سطح القماش من خلال الملامسة.
لعل ما أسلفت بهذا الشرح المبسّط يكون بمثابة المدخل الرئيس إلى روائع التشكيلية Marijana Vukovic ماريانا فوكوفيتش النمساوية، بعيداً عن حكاية الافكار القريبة التي تركتها في معظم لوحاتها الفنّية والتي جعلتني ادور حول اطار لوحتها للبحث عن منفذ او باب موارب يمكنني من الدخول الى قلب اللوحة للوقوف على معطياتها التي سانسج منها حبكة قرائية تروي غرور القارئ..
واضح ومن الوهلة الأولى أن الرسّامة ماريانا تأثرت حكماً بمن سبقها من الفنانين العالميين الذي مالت اهواؤهم نحو المدرسة الانطباعية، لكنها انحرفت في موضع ما عن خطهم وذلك لاسباب خاصة تتعلق بارادتها لتشكيل خطّ يمثل بصمتها الفنية هي، وقد نجحت فعلاً في هذا من خلال العبث بدلالة بعض الالوان او تغيير رموز الافكار التي اعدتها مسبقاً لبناء لوحتها.
وكما اسلفت فإن افكار اللوحات لم تحاك اشاراتها تفصيلات بعيدة، بل بقيت تدور في محور ومحيط ماريانا ذاتها، فالمساحة القرائية في لوحتها قريبة جداً وانفعالاتها داخل مربع الاطار اقرب الى الحالة الهادئة والباردة، بمعنى ان ولادة اللوحة لدى ماريانا تشابه تماماً لحظة هبوط الوحي الشعري والذي يتجلى في ذهنية الشاعر والفنان على هيئة دفق ولمرة واحدة وبسرعة خاطفة، يتم القبض عليه بسرعة ايضاً ليتم تحويله من حالة الدفق الذهني العاصف (الخيالي) الى حال الوجود «لوحة فنية او قصيدة شعر».
ولادة اللوحة الفنية لدى ماريانا تاتي بعد مخاض متهادٍ، وهذا ما جعلها تقدّم لنا وليدها بهيئته الجميلة والمدهشة من دون ان تشير لنا بالرسم عما كان عليه الم المخاض..
بالطبع تلك فعالية فنية صعبة، عندما نتحدث عن المولود من دون المرور بإحداث هذه الولادة، وقد تجعلنا نفقد متعة وبهجة هذه الولادة الفنية، لان الشيء السهل نعبر بالقرب منه بشكلٍ سريع مهما عمقت دلالاته ورموزه ، واما العسير فهو ما يستوقفنا ويحيلنا اسرى محطاته ان كانت بعيدة او قريبة..
اقول ان ماريانا عملت بهذه الخاصية الفنية وارادت الوقوف على راس فكرتها من دون الوقوف عند التفصيلات الاخرى لمبنى لوحتها، وذلك لسبب مهم رضخت لسلطته خلال مراحل الرسم وهو ان ماريانا اعتمدت على تشكيل لوحتها من الوان الاكرليك بالتحديد، فخاصية تلك الالوان وطبيعتها صعبة المراس ودقيقة، فهي من الالوان التي تجفّ بسرعة متناهية على ارض اللوحة وعملية العبث بتمديدها قد تحرف كلياً خطّ الفكرة التي قامت عليها اللوحة في الاساس الاول..
ما يمكن قوله في النهاية، ان الوان ماريانا تعكس في عين الرائي بعداً مريحاً يتجلّى في معطاها الدلالي الكثير من الفطرة الخالصة والهدوء والبرودة والصمت. وهذا ما ينتج في نهاية المطاف لوحة فنية هادئة وساكنة لكون دلالة الوانها المختارة تذهب الى الصفاء والهدوء المخبوء في اللون الاصفر، عدا عن مساحات الازرق المتباينة في اماكن كثيرة من اللوحة والتي تشير على النقاء والراحة. وهذا ما يجعل القارئ يبقى في حيرته وذلك لقناعته ان حشد تلك الالوان بعينها يفتح له باباً بحثياً آخر يذهب من خلاله بعيداً لبحث عن اللون الاحمر والذي يمثّل الحبّ والثورة، فتكاثف الوان الصفاء والهدوء والصمت يلقي بحضوره على صدر اللوحة انبعاث اللون الاحمر كما في اعمال ماريانا..
ولعلنا نجد ان هذا الامر هو حالة طبيعية في الحياة، ولو اردنا مقاربته بالفعل مع الواقع لوجدنا ان معظم الذين يعيشون حالة صفاء وهدوء وصمت في جانب من ذواتهم تغيب حالة العصف الروحيّ التي يمثلها اللون الاحمر.
ماريانا فوكوفيتش، فنانة نمساوية ترسم منذ الصغر ولكنها بدات العمل وكفنان محترف منذ سنتين. شاركت بمعارض فردية وجماعية في النمسا وفي بعض دول الاتحاد الاوروبي.
* كاتب عربي/ فيينا.