قيصر إنْ حكى في لبنان
نضال القادري
البعض في لبنان يتعامل مع المقاومة ومفهومها على أنها شأن يخضع لمبدأ القبول والرفض، كالكثير من الأمور الأخرى التي هشّمت وهمّشت بإرادة واستسلام جماعيّ. وتتقاذف الجماعات السياسية “المسألة اللبنانية” على أنها إشكالية تاريخية، ومن بين الخلطات التي تتجرّعها المكوّنات الإنعزالية ما يتعلق بدور لبنان وموقعه، وعدم قدرته أو قصوره على الصمود والمواجهة والصراع مع “اسرائيل”. وقد أثبتت التجارب فشل تثبيت مفاهيم أخرى موازية كالحياد، والحياد الإيجابي، وعلى ضفة المقاومة المجرّبة سقطت مقولة “إنّ قوة لبنان في ضعفه” إلى غير رجعة.
المقاومة مسألة وجوديّة تتعلق بالاحتلال “الإسرائيلي” لفلسطين، ومحور الحركة الصهيونيّة الاحتلالي، والمؤسسة “الإسرائيلية” وأطماعها في عالمنا العربي كله. المقاومة ليست ظرفية، وغير متعلقة ببيئة “حزب الله” الدينية أو بمسيرة الطائفة “الجعفريّة” في لبنان كما يصوّرها أعداء لبنان. تشكلت المقاومات الوطنية في لبنان قبل نشوء «حزب الله»، وهي من عمر المغتصبات على أرض فلسطين، وهي باقية إلى ما بعد زوالها، فهي شأن وجودي باق ثقافياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً.
في لبنان، يختزل بعض ناهبي المال العام يومياتنا ليوائمها ما بين صدور قانون “قيصر”، وسلاح المقاومة، وأزمة الدولار، والاقتصاد الوطني المتردّي. إنّ الأزمة الاقتصادية في لبنان مردّها لسياسات اقتصادية ربطت مستقبل ازدهار لبنان بما يسمّى “السلام”، وأيّ سلام هذا الذي يشرعن الاحتلال؟! كذلك مردّ الأزمة يعود إلى تراكم ثروات مَن عاثوا فساداً في بيئة الأعمال الحكوميّة، وفي مشاريع الإدارة، والنقد، والقطاع المصرفي. جلّ من تعاطوا من الإقطاعات السياسية والدينية تغوّلت بلا رحمة. بيئة النظام المذهبي فقاسة أزمات وهاوية تسويات.
لقد تغوّل النظام الطائفيّ بمخالبه على مفاصل الاقتصاد ووجهه إلى منحدرات استهلاكية وخدمية خطيرة وغير محسوبة. نظام المحاصصة الطائفيّة المذهبية دغدغ جوع الشعب، وعلك الأزمات، وجملها وكرّرها بالقسمة، وغنّج أسياد الفساد وأبطاله، وها نحن اليوم نرى الأخطبوط نفسه يرقص فوق دم جثثه، وقد أبقى فريسته على قيد التنفس حتى استجرار آخر دولار في جيوب الفقراء.
على الهامش، ليس لتنامي مخزون السلاح الاستراتيجيّ علاقة بالاقتصاد. السلاح القويّ يستطيع أن يتعايش مع الاقتصاد القوي. سواء أكان سلاح المقاومة أو سلاح الجيش الوطني. فقط لسلاح الميليشيات، والأفراد المتفلتين، والمافيات المنظمة، وقوى الأمر الواقع علاقة عكسية بالاقتصاد المتردّي.
أما الأسئلة المتعلقة في “الجوع” الوجودي المقبل مع إقرار قانون “قيصر” وإيداعه قيد التنفيذ فهي مشروعة في وجه الجميع، وإباحة علاجها لا تصحّ إلا على قاعدة مصلحة لبنان العليا في إنتاج مناعة ذاتية للمواجهة، والشروع في إجراءات العمل والتكامل في بوتقة “مجلس التعاون المشرقي”.
الحكومة اللبنانية الحالية التي يرأسها د. حسان دياب صارت حكومة بثقة من هم مع الخيار الوطني المقاوم، فلتأخذنا هذه الحكومة إلى حيث تريد بوضوح اقتصادي وسياسي واجتماعي. التلوّن لا يجدي ولا يفيد.
لا يكفي أن يحمل نائب أو وزير إصلاحي أو فاعل خير ملفّ فساد يرمي به في الإعلام بوجه الشعب، أو يبقيه رهينة “ركوة قهوة” يقدّمها مدّعي عام على شرف ضيوفه من المستجوبين، وبعدها “يا دار ما دخلك شر”..!
يؤلمني ذلك المشهد، ولعمري يستوي في فداحته مع الأوامر التي صدرت بتقديم ضيافة الشاي إبان حرب تموز لجنود العدو الاسرائيلي في ثكنة مرجعيون. وإنّ حجم هذا الغضب المدوّي سيرتدّ مع كلّ فضيحة وبالاً على كلّ سيد فينا.
إنّ غياب السياسات العامة الصائبة، يملأ هشاشتها ساسة مجانين، استقالوا من المواطنة، وتعاطوا المذهبية والطائفية والزبائنية، وباعوا في أسواق القطعة بالجملة وبالمفرّق وبالتجزئة.
إنّ كلّ وقتنا الضائع على هامش أعمالنا كانت تلوّنه الأيادي الغريبة لبعض الواهمين بأنّ هزيمة مشروع المقاومة آتٍ بقرار، وعشر مقالات، ومن على متن جريدة صفراء أو شاشة زرقاء يتنفس كاتب، وحفنة مأجورة من المحللين!
إنّ قانون “قيصر” هو الإرهاب بعينه، وفيه من المظلومية لبلادنا وشعبنا وللمقاومة ما لا يرحم، وفيه اعتداء موصوف على حقنا في تحرير أرضنا، وعلى كلّ شعب يرزح تحت الاحتلالات. ولكن، ألا يجدر بنا الصمود في وجه الوصفة؟ إنها وصفة انتحار إذا ما تجرّعناها بإرادتنا.
ما من خيار إلا تعزيز ثقافة المقاومة وزيادة منسوب المناعة. المناعة ثقافة كاملة في العسكر والاقتصاد والسياسة، وفي مكافحة مؤسسة تفقيس الفساد، وإعلاء شأن المحاسبة، وتوازن سلطة القضاء وتنزيهه. كلّ ذلك خير لنا من اجترار الوهم. الوهم أن تموت جائعاً صامتاً.
المناعة أن تصمد أكثر، لا أن تموت أكثر. المناعة خيار الأحرار، وليس الفساد المتفشي بكلّ أشكاله إلا مائدة دسمة تقتات من مناعة الحياة. قيصر لا يمرّ إلا بقسمتنا. “قيصر” لا يمرّ إلا بالانعزال. كيف به يمرّ وكلّ خيارات الحياة ولادة مفتوحة حتى الموت. الموت الذي ينبت على رصيف الحياة.
نحن أحرار هذه البلاد، نقدّس ترابها، ننعجن فيه، كنا هنا، باقون هنا، لا مفرّ من المواجهة، ولتكن الحرب شريفة في وجه من أرادها أخلاقية في مساراتها بين الأمم. لكننا هنا لا نتحدث عن “أمم” بل عن احتلالات وانتدابات وحروب بالوكالة والأصالة وكافة أنواع السفالة فتتت كلّ شيء حولنا حتى صارت أمورنا مستحيلة.
كلّ الحروب علينا كانت باطلة في منطلقاتها الأخلاقية، وحاقدة لا ترحم في جولاتها، وكيدية لا تساير، وكانت لإسرائيلات الداخل فيها مخالب نابية، وأصواف ناعمة، وأصوات ناشزة، وحناجر مكبّلة بالباطل. لقد أشعل ناراً في هشيمها حين قال الشهيد أنطون سعاده فيهم: “إنهم يريدون أن يأتوا إلى الحرية بكلّ السلاسل والقيود التي يرسفون فيها. يريدون أن يأتوا إلى ساحة الحرية مكبّلين، ولا يريدون أن يقطعوا هذه السلاسل التي اعتادوا رنينها حتى أنهم لا يتمكنون من النوم إلا على رنينها”.