– ليس من عاقل إلا ويدرك أن زمن البحث بالصياغات ذات الطابع الميثاقي، كمثل إلغاء الطائفية أو اللامركزية، أو تعديل الصلاحيات الرئاسية، لا يمكن أن يكون الزمن الذي يعيشه لبنان اليوم، إذا كانت النيات من وراء طرح هذه القضايا صياغة تطوير للنظام الدستوري. فلبنان يعيش في قلب عاصفة إقليميّة من حوله يُعاد خلالها رسم خرائط المنطقة. ومشاريع الاستهداف تجاهر بالدعوة لفرط وحدة الكيانات التي قامت مطلع القرن الماضي وإعادة تشكيلها. ولا يخفي أصحاب هذه المشاريع نياتهم بأن تكون عملية الفك والتركيب منسجمة مع استيلاد كيانات أو شبه كيانات، تستند إلى هويات عرقية أو دينية، تحاكي إعلان كيان الاحتلال لنفسه كدولة يهودية. والعقلاء والحريصون في مثل هذه المراحل، يرجئون كل ما يفيد تداوله بنوع من التقاطع ولو بالشكل مع هذه المشاريع المشبوهة، منعاً لوقوعها في خندق خدمة المشاريع المشبوهة التي تستهدف كيانات المنطقة، ومنها لبنان.
– في البعد الداخلي اللبناني، تضغط أزمة اقتصادية بنيوية وتتحول إلى أزمة معيشية خانقة، وتهدد بتعميم الفوضى وإضعاف الدولة كلما تفاقمت الأزمة وارتفع منسوب الغضب الشعبي، وتراجعت مقدرات الدولة والثقة بأهليتها للتصدي لهذه الأزمات. وفي كل بلاد العالم عندما تضعف الدولة المركزية، وتنشأ حال من الفوضى السياسية والأمنية والاجتماعية، تبرز إلى السطح أشكال من التنظيم الذاتي والإدارة المحلية في المناطق، وتحاول القوى الممسكة بمناطق نفوذ إنشاء نوع من سلطات الأمر الواقع. ولا يمكن الفصل في هذا المناخ بين دعوات بعض القوى للامركزية موسعة في هذه المرحلة، وبين نيات الاستعداد لخلق مناخ سياسيّ وإعلاميّ لشرعنة واقعية في الرأي العام لنوع من السلطات الذاتية التي تستعيد ذاكرة سيطرة الميليشيات على الجغرافيا اللبنانية، وتقاسمها، خصوصاً عندما يكون أصحاب الدعوة من الذين قاموا بالفعل بإقامة دويلاتهم على أنقاض الدولة، وصنعوا لذلك نظريات ومشاريع سياسية واقتصادية، وشعارات، لا تقف عند حدود اللامركزية بل تقوم على فكرة التقسيم بمسمّيات مختلفة منها الفدرالية، كإطار تخدمه صيغ اللامركزية وتمهد له الطريق.
– عندما يكون الانقسام السياسيّ في أعلى مراتبه بين القوى الكبرى في البلد، وهي القوى التي تمثل مهما تغطّت بوطنيتها أو علمانيتها، تركيبة ومصالح طائفية. فهذا يعني أن الاستقطاب السياسي صار طائفياً وانتهى. وعندما لا يتوقف أحد عن التحذير من خطر الفتنة، فهذا يعني أن العصبيات الطائفية مستنفرة في ذروتها. وفي مثل هذه الحال لا تقع دعوات اللامركزية إلا على هذين الاستقطاب والاستنفار، لتشكل الوعاء الفكري المؤقت البديل لفكرة الوطنية، ليستقر البديل النهائي على تشجيع مشاريع تحويل الدولة إلى دويلات، وفي الطريق الاستثمار على كل مفردات الأمن الذاتي والاقتصاد الذاتي والإنماء الذاتي والتنظيم الذاتي، وهي محطات انتقالية على طريق سقوط الوطن الواحد.
– لا يستطيع بعض أصحاب النيات النظرية في طرح اللامركزية إنكار هذه الحقائق، ولا إنكار حقيقة أن الأمر لا يقع في سلم أولويات الناس التي تعاني من خطر الانهيار والجوع، وأن الدفع به إلى الواجهة مفتعل، كما لا يستطيعون إنكار أن منطقاً يرافق هذه الدعوات يقوم على ربطه بنظرية قديمة مستجدّة، “لكم خياراتكم ولنا خياراتنا”، والمقصود بها، التلويح بالذهاب لخيار التقسيم باسم طائفة أو مذهب، إذا كانت الخيارات التي ستعتمدها المؤسسات الدستورية في الدولة هي التمسك بالمقاومة والعلاقة بسورية، فلا حجة لأحد هنا باختلاط حابل دعواتهم بنابل دعوات غيرهم، لأنهم يخدمون هذا الغير بجعل مستقبل الوطن على المحك، فتصير مشروعة معاملة كل دعوة للامركزية في هذه اللحظة، كدعوة مشبوهة تمثل رأس حربة مسمومة في مشروع يستهدف وحدة الوطن والدولة خدمة لأهداف أجنبية تعلن عن نفسها وعن أولوياتها تجاه لبنان والمنطقة، بصفتها محاولة لتحقيق المصالح الحيوية الوجودية والأمنية لكيان الاحتلال.