اسمع يا قيصر…
} د. كميل حبيب*
مع دخول قانون قيصر الأميركي حيّز التنفيذ يكثر الحديث عن مندرجات هذا القانون وماهية حزمة العقوبات الجديدة على سورية، لكن، في رأيي فإنّ المشهدية في مكان والحدث الأساسي لتداعيات هذه العقوبات الظالمة في مكان آخر. أضف إلى ذلك أنّ العقوبات الأميركية على الشعب السوري ليست بجديدة، فحكاية العقوبات بدأت عام 1979 حين وضعت وزارة الخارجية الأميركية سورية على «لائحة الإرهاب».
وبناء عليه فرضت عليها العقوبات بموجب قانون المساعدة الأمنية الدولية وبموجب قانون الطوارئ الدولي للقوى الاقتصادية (وقف الصادرات) والقانون الدولي للصادرات. وقد مارست واشنطن بموجب تلك القوانين حظراً على الشركات الأميركية وخاصة النفطية في التعامل مع الحكومة السورية، ثم حظراً تكنولوجياً شمل كافة السلع والتجهيزات التي تحوي مكوّناً أميركياً. وكنتيجة لاستمرار ومتابعة النهج من القيادة السياسية في عهد الرئيس بشار الأسد وتمسكها بثوابتها الوطنية والقومية استمرّت العقوبات المفروضة على سورية، بل توسّع إطارها ليشمل أيضاً عقوبات أوروبية وعربية وتركية.
ينص قانون قيصر على فرض عقوبات إضافية وقيود مالية على المؤسسات والأفراد الذين يتعاملون مع سورية. تجدر الإشارة إلى أنّ هذه العقوبات موجودة وقائمة منذ سنوات، والجديد اليوم هو تهيئة أرضية مختلفة لهذا الموضوع. وبات الوضع أصعب بسبب إغلاق المصارف اللبنانية لموضوع التحويلات المالية. فلبنان كان متنفساً للكثير من رجال الأعمال السوريين بعد بدء العقوبات على سورية. وبالتالي أصبحت الظروف أصعب بعد إغلاق المصارف في لبنان والضغط على الليرة السورية وتدهور سعر صرفها بشكل سريع.
من جهته، ربط جيمس جيفري المبعوث الأميركي إلى سورية بين التطورات السورية واللبنانية مؤكداً أن «النظام السوري لم يعد باستطاعته تبييض الأموال في البنوك اللبنانية التي تعاني من أزمة». كما أنّ قانون قيصر يفضي إلى تشديد الحصار البري على دمشق خصوصاً من الحدود اللبنانية لعزل سورية والمقاومة معاً.
وكذلك فإنّ الأزمة في لبنان وعلى مراحل حرمت سورية ولبنان من كميات من الدولارات كانت تمرّ عبر المصارف اللبنانية، إذ إنّ المعدل اليومي لحركة دخول وخروج الدولار من لبنان إلى سورية وبالعكس تراوحت خلال سنوات الحرب بين مليونين إلى ثمانية ملايين دولار في اليوم الواحد إما من ودائع سورية في البنوك اللبنانية أو من أموال تحويلات عمال سوريين في لبنان إلى سورية أو من عمليات شراء من الخارج كانت تتمّ عبر لبنان ويدفع السوريون ثمنها في بيروت مع بدء شحّ الدولار في السوق اللبنانية والانهيار الحاصل في السنة الأخيرة ومع سحب المودعين أموالهم لم يعد يتجاوز حجم التبادل بالدولار بين البلدين عتبة الـ 100 ألف دولار يومياً.
وعليه فإنّ الساحتين اللبنانية والسورية مرشحتان للتصعيد عبر «لعبة الدولار» ودفعهما تدريجياً نحو الفوضى العارمة.
هناك من يرى أنّ الأزمة المالية برمّتها هي تضليلية لأنّ الحدث السياسي هو في فلسطين، فواشنطن وتل أبيب تعدان العدة لتنفيذ «صفقة القرن» عبر ضمّ الضفة الغربية أولاً ومن ثم غور الأردن إلى الكيان الصهيوني، وهذا من شأنه أن يترك تداعيات خطيرة على منطقة الشرق الأوسط.
وعليه، فإنّ قانون قيصر جاء في لحظة حرجة لأنّ هدفه غير المعلن هو خلق أجواء إحباط لدى جبهة المقاومة المنتصرة على الإرهاب في سورية ولبنان.
أيضاً، فإنّ قانون قيصر هو جزء من مشروع أميركي – إسرائيلي يهدف إلى فدرلة الدولة السورية، وهذا الأمر يبدو واضحاً من خلال الدعم الأميركي المتزايد لما يُسمّى إدارة المنطقة الذاتية في شمال شرق سورية ويمكن تطبيقه من خلال احتجاز الثروات السورية ومنع وصول القمح والنفط من المناطق الكردية ومحاولة تأخير العملية العسكرية في إدلب ريثما يتمّ تجذير الإدارة الذاتية أكثر، وكلّ هذا يعني العودة إلى مشروع برنارد لويس الذي أطلقه في آذار 2003 والذي يهدف إلى تقسيم المشرق العربي إلى دويلات مذهبية كي يتسنّى لـ «إسرائيل» تبرير وجودها كدولة يهودية.
عقوبات «قيصر»
في ميزان القانون الدولي
وفق ميثاق الأمم المتحدة تمثل المواد 39 و 41 و41 الإطار القانوني الذي تستند إليه المنظمة الدولية وتحديداً مجلس الأمن في فرض عقوبات اقتصادية على دول معينة، فوفق المادة 39 يقرّر مجلس الأمن ما إذا كان قد وقع تهديد للسلم أو إخلال به أو كان ما وقع عملاً من أعمال العدوان، ويقدّم في ذلك توصيته أو يقرّر ما يجب اتخاذه طبقاً لأحكام المادتين 41 و 42 لحفظ السلم والأمن الدوليين أو إعادته إلى نصابه.
وتنص المادة 41 على أنه لمجلس الأمن أن يقرّر ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا تتطلب استخدام القوة العسكرية لتنفيذ قراراته، وله أن يطلب من أعضاء الأمم المتحدة وقف الصلات الاقتصادية، أما المادة 42 تنص أنه إذا رأى مجلس الأمن أنّ التدابير المنصوص عليها عليها في المادة 41 لا تفي بالغرض جاز له أن يتخذ قراراً باستعمال القوة العسكرية لحفظ السلم والأمن الدوليين أو لإعادته إلى نصابه.
ما غاب عن تفكير «قيصر» أنه عند وضع الحدود القانونية لفرض عقوبات اقتصادية في أوقات النزاع المسلح لا بدّ من النظر إلى أحكام القانون الدولي الإنساني والأحكام غير القابلة للانتقاص من قانون حقوق الإنسان، وعند وضع الحدود القانونية لفرض عقوبات اقتصادية في زمن السلم لا بدّ من النظر إلى قانون حقوق الإنسان، أيّ إلى الاعتبارات الدولية للإنسان فلا يجوز لأية عقوبات أن تحرم الناس من الحقوق الإنسانية الأسياسية في الحياة والبقاء.
ختاماً، هذه العقوبات بتحقيقها هي شكل من أشكال الإرهاب الاقتصادي، فالغرب يريد للمنطقة العربية الغنية بالموارد الطبيعية أن تبقى سوقاً استهلاكية كبيرة للمنتجات الغربية وأن يتسيّد الاحتلال الاسرائيلي على المنطقة. هذا هو الحلم الجديد الذي يراود القادة الصهاينة وهو الانتقال بـ «إسرائيل» من حلم «إسرائيل الكبرى» الذي فشل إلى حلم «إسرائيل العظمى» أيّ أن تسيطر «إسرائيل» على صناعة القرار في الدول العربية.
ويبقى السؤال حول كيفية الخروج من شرنقة العقوبات والصمود، وبالتالي المواجهة. إنّ مكانة سورية والفرص الكامنة والكبيرة ستكون محفزاً لإنشاء شراكة استراتيجية مع الدول الصديقة (روسيا الصين وإيران) بحيث يتمّ العمل على استقطاب المشاريع الاستعمارية ذات التنمية المستدامة وإعداد الأرضية اللازمة لتسهيل دخول رأس المال الأجنبي من خلال بناء شراكات تجارية.
وعلى مستوى العلاقات اللبنانية – السورية يجب العمل على تشكيل شبكات تواصل وصولاً إلى نهج المقاومة الشعبية الطويلة الأمد، وفي هذا المنحى المقاوم نردّد ما قاله سماحة السيد حسن نصر الله في ما يعني «إذا خيّرنا بأن نقتل بالسلاح أو نقتل بالجوع سيبقى سلاحنا في أيدينا ولن نجوع، ولسوف نقتل أعداءنا»، ولا بدّ أيضاً من تعزيز البعد المجتمعي المتكامل بين لبنان وسورية والالتفات إلى الموضوع النفسي والإعلامي الذي يؤدّي دوراً كبيراً في المواجهة، وإذا كانت هناك من إيجابية وحيدة نستشفها من قانون قيصر فهي أنه ذكرنا بما نؤمن به أيّ وحدة المسار والمصير بين لبنان وسورية ويجب تفعيل هذه الوحدة لأنها السبيل الوحيد إلى المواجهة.
*عميد كلية الحقوق – الجامعة اللبنانية