المعترضون على مؤتمر بعبدا يترقّبون حرباً إسرائيليّة
} د. وفيق إبراهيم
فشلت السياسة اللبنانية في الخروج من صراعات التحاصص والمصالح الى مستوى حماية وطنها في مراحل المحن والأخطار الخارجية.
فتتعامل مع التطورات وفق منطق وحيد ينحصر بتأمين مصالح قياداتها وارتباطاتها الخارجية حتى ولو تناقضت اهتمامات بلدها.
هذا هو الإطار الذي يدور فيه النقاش السياسي الحالي حول مؤتمر بعبدا الوطني الذي دعا اليه الرئيس ميشال بالتعاون مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري.
فالدعوة منطقية جداً ومضمونها شديد الوطنية، لأنها محاولة للجمع بين كل القوى السياسية اللبنانية بمختلف تناقضاتها على مضامين خطرة جداً يتربع قانون قيصر الأميركي على رأس لائحتها بتداعياته الثقيلة على الاستقرار الداخلي الى جانب الاتجاه الداخلي الى الفوضى الشعبية نتيجة التحريض الذي تؤديه بعض القوى السياسية التي تشكل جزءاً أساسياً من النظام، لكنها آثرت البقاء خارج الحكومة للتهرّب من تحمل مسؤولية الانهيار الاقتصادي بالإضافة الى قوى أخرى ترى ان الفرصة مناسبة لإسقاط عون وتياره الوطني الحر للإمساك بالمسيحيين.
لكن مراهنات هذا النوع من السياسات تتركز على التصعيد في الاحتراب الإقليمي واتجاه الأميركيين لتشجيع «إسرائيل» لخوض حرب على لبنان.
فتبني مراهناتها على أساس عدوان جوي إسرائيلي كبير يترافق مع اختراق محدود للجنوب اللبناني بهدف منع هجمات متوقعة لحزب الله على الداخل الإسرائيلي في فلسطين المحتلة.
أليست هذه المراهنات جزءاً ثابتاً تعتمده سياسات قوى لبنانية منذ القرن التاسع عشر؟
ألم تراهن قوى الطوائف على الفرنسيين والإنجليز والعثمانيين والنمسا وروسيا القيصرية ومصر محمد علي؟
فما الفارق بين تلك المرحلة وبين الوضع الراهن الذي يسعى جاهداً للاستفادة من غزو إسرائيلي او تأجيج أميركي للأوضاع بالحرب الاقتصادية الخانقة؟
للإشارة فإن سياسات لبنانية كانت تعمل على بقاء الاحتلال الفرنسي في لبنان قبل 1948 وعملت سياسات أخرى على تأييد سياسات أميركية ارسلت بوارج من الأسطول الأميركي في 1958 لتأييد الرئيس كميل شمعون في وجه ثورة شعبية مدعومة بالمال والسلاح والمدربين من مصر!
كذلك فإن قوى يسارية لبنانية انخرطت في حرب 1975 بالاعتماد على مسلحي منظمة التحرير الفلسطينية.
وحده الجيش السوري دخل الى لبنان بتأييد أممي عربي، وأيّدته في البداية كامل القوى السياسية اللبنانية وفي طليعتها «الحلف الثلاثي» الذي كان متشكلاً من الرئيس السابق كميل شمعون والوزير المؤسس للكتائب بيار الجميل وعميد الكتلة الوطنية ريمون إدة.
إلا أن لعبة الاستحواذ على السلطة دفعت بالكتائب والقوات الى مشاركة قوات إسرائيلية باجتياح لبنان في 1982.
إن كل هذه المراهنات أسقطتها مقاومات شعبية لبنانية لجمت الدور الخارجي في السياسات اللبنانية الى حدود التأثير السياسي من دون تسهيل الغزو الخارجي. وهذا سببه بالطبع تطور دور المقاومات الوطنية اللبنانية ونجاح حزب الله ببناء معادلة لبنانية إقليمية أصبح من الصعب تجاوزها.
لقد ظهرت مستجدات أعادت للقوى السياسية في لبنان املها بأدوار عسكرية خارجية تعيدها الى رأس السلطة. فأوضاع الإقليم متأججة من حروب ليبيا والعراق وسورية والصراعات السياسية العنيفة في مصر وتونس والسودان والأردن المذعور. انما من «إسرائيل» هذه المرة والخليج الذي اضاع هويته.
هذا يعني ان المنطقة اصبحت في قعر برميل البارود ويعمل الأميركيون على الدفع نحو أوضاع جديدة بالاسلوبين العسكري والاقتصادي بشكل يغطون فيه هجمات عسكرية تركية مع إعادة تنشيط للإرهاب مراهنين على استعمال «إسرائيل» في هجمات واسعة تشمل لبنان وسورية، وتؤدي الى تأسيس دولتين للأكراد شمالي العراق والشمال الشرقي السوري وتجذير الدور السياسي التركي بواسطة الاخوان المسلمين وجيوشهم.
ألا يحق لقوى سياسية لبنانية تعمل على الإيقاع الخارجي، أن تبحث عن دور لها افتقدته بعد تطور دور المقاومة اللبنانية. لذلك فإن مؤتمر بعبدا يريد انتاج سياسة لبنانية وطنية تقوم بـ»اللغة القانونية» على ربط نزاع داخلي بين القوى اللبنانية، مع إرجاء نزاعاتها الى مراحل هادئة، والعمل على إنتاج سياسات وطنية تحمي لبنان من تطورات قيصر ومخاطر الفوضى الداخلية في بلد يحتوي على ثماني عشرة طائفة يرفض قياديوها الدينيون والسياسيون أي اندماج فيما بينها وسط معلومات عن اعتقال بائعي أسلحة في شمال لبنان والبقاع.
العمل اذاً ذاهب نحو الاستفادة الداخلية من اجتياح إسرائيلي قد يتواكب مع اشتباكات ذات أبعاد طائفية ومذهبية.
موضوع الحرب الإسرائيلية احتمال ضعيف جداً، لأن قادة الكيان المحتل يدركون أكثر من الاحزاب اللبنانية الخليجية المتأمركة أن حزب الله لن يتأخر في إرسال عشرات آلاف من صواريخه لتغطي كامل فلسطين المحتلة، ويعرفون أن الاجتياح البري الإسرائيلي انما يتجه إلى فخ محكم تنصبه مقاومة أصبحت تجمع بين الأسلوبين في القتال الشعبي والكلاسيكي.
لذلك فإن «إسرائيل» لن تهتم كثيراً بالمراهنين عليها من السياسيين اللبنانيين بقدر عنايتها بحاجات الكيان المحتل وسعيه الى إجهاض اي انتفاضة فعلية للفلسطينيين في الضفة وغزة.
فهل يستوعب السيدان سعد الحريري وسمير جعجع مخاطر الاعتماد على قيصر للإمساك بالسلطة.
وهل يدركان ان الحرب الإسرائيلية على لبنان لن تؤدي إلا الى المزيد من صعود المقاومة في الداخل والإقليم؟
بما يعني أنهما مضطران للذهاب الى بعبدا وربط نزاعاتهما مع القوى اللبنانية الأخرى بحكم مسألتين: الخطر على الكيان السياسي اللبناني، وتوازن القوى الإقليمي والخارجي الذي لا علاقة لهما به إلا بالابتهال والتوسل. هذا يعني ان الرئيس بري يقرأ المشهد الحالي والتاريخ بشكل عميق، يحاول فيه المحافظة على الاستقرار اللبناني بمكوناته السياسية والطائفية بشكل متوازن لا يتسبب فيه بمزيد من عقد النقص للمراهنين على خارج لا يرى فيهم أكثر من دمى لتسلية الأطفال والمراهقين.