ليتني كنت حماراً وحشياً…!
} نصار إبراهيم
وقف حمار وحشي في سهوب أفريقيا الأمّ، أطرق برأسه حزيناً وهو يتابع ما يجري من ويلات وجنون وبؤس في المجتمعات التي تدّعي الإنسانية والحرية والمساواة والعدالة وحقوق الإنسان. سرح بنظره في السهوب الممتدّة وقال: أيّ حمقى أنتم أيها البشر، ما هذا الجنون والقباحة؟ ماذا تفعلون، كيف تبيدون ذاتكم بسبب اللون أو غيره؟ هل تعون ما تفعلون؟
انظروا إليّ جيداً ها أنذا، فهل أنا أبيض أم أسود؟ وهل يمكن أن أكون أنا أنا إذا عبثت بجوهري الطبيعي؟
ألا ترون أنني جميل بذاتي ولذاتي ولم يخطر ببالي لحظة أنني في حالة تناقض.
إنني جميل كما أنا، تشكلت هكذا عبر صيرورة تعود لملايين السنين، فتكوّنت على أجمل وأكمل ما يكون، ولا يشغلني شئ حول طبيعتي وماهيتي.
لو سرت على طريقكم لكنت اليوم مجرد «إنسان حمار» غبي وحشي أمزق ذاتي لكي أتخلص من هذا اللون أو ذاك. يعني حمار عنصري.
هل تعلمون إيها «الحضاريون» جداً أنّ العنصرية والتمييز القائم عليها تشكل ذروة البشاعة الواعية في تناقضها المهين مع الطبيعة والقيم الإنسانية النبيلة التي تدّعونها والتي تتمحور – كما أعرف – على الإنسان ككائن اجتماعي مشروط بقاءه موضوعياً وذاتياً باحترام وتعزيز المبدأ التكويني الإبتدائي: التضامن الإنساني من أجل البقاء ومواجهة المخاطر والتحديات والمشاكل المتواصلة على مختلف الصعد.
العنصرية أيها البائسون بكلّ ما يترتب عليها من ثقافة وممارسة متعاكسة بالمطلق من بديهة الوحدة في التنوّع الطبيعي، الذي هو شرط بقاء الحياة، حياة الإنسان والنبات والحيوان وتوازن البيئة.
والعنصرية هي الإبن الشرعي لنظم الهيمنة والاستغلال والسيطرة والنهب والتملك والجشع والأنانية الضيقة التي أنشأتموها، والتي تهبط بالتنوع والاختلاف الطبيعي وتجعل منه مبرّراً للسيطرة والتمييز الدوني والإبادة الاجتماعية والجنسية والثقافية والقومية.
والعنصرية لكي تكون وتزدهر تنشئ منظومات عميقة وممتدة وشاملة:
العنصرية الجنسية ضد المرأة، العنصرية العرقية، عنصرية اللون، العنصرية القومية، والدينية والطائفية.
وبقليل من التدقيق تجدون أنّ هدف العنصرية النهائي هو السيطرة والنهب والسرقة والاستغلال الوحشي.
ولكي تبرّر أنظمة ومنظومات العنصرية ذاتها فإنها تخلق وتؤسّس أيديولوجيتها الخاصة التي تقوم على:
التفوّق العرقي
انها ذات رسالة أخلاقية وإلهية.
وأنّ التميّز والتفوّق للجماعات العنصرية هو معطى طبيعي.
ثقافة التمركز على الذات.
الاختلالات الاجتماعية والتاريخية كالتخلف والتقدم هي بسبب الاختلافات الطبيعية والقصور والعجز العقلي الوراثي وليس بسبب النهب وعلاقات القوة والاستعمار والهيمنة والقهر والاستعباد.
الاختلافات البيولوجية (الأنثى والذكر، الأبيض والأسود..) هي تعبير عن اختلالات بنيوية تبرر الإهانة والتمييز والاستغلال والإخضاع والعنف.
أنهى الحمار الوحشي مطالعته، صمت قليلاً، هزّ ذيله ثم قال سأروي لكم الآن قصة جميلة قرأتها بعنوان «نعم… أفتخر أنني «حمار ابن حمار»! وهي بالمناسبة لكاتب شاعر من جنسكم اسمه أحمد مطر، تقول القصة:
«ذات يوم أضرب حمار عن الطعام مدة من الزمن، فضعف جسده وتهدّلت أذناه، وكاد جسده يقع على الأرض من الوهن، فأدرك الحمار الأب أن وضع ابنه يتدهور كلّ يوم، وأراد أن يفهم منه سبب ذلك، فأتاه على انفراد يستطلع حالته النفسية والصحية التي تزداد تدهوراً. فقال له: ما بك يا بني؟ لقد أحضرت إليك أفضل أنواع الشعير.. وأنت لا تزال رافضاً أن تأكل ..أخبرني ما بك؟ ولماذا تفعل ذلك بنفسك؟ هل أزعجك أحد؟
رفع الحمار الابن رأسه وخاطب والده قائلاً:
نعم يا أبي… إنهم البشر.
دُهش الأب الحمار وقال لابنه الصغير:
وما بهم البشر يا بني؟
فقال له: إنهم يسخرون منّا نحن معشر الحمير.
فقال الأب وكيف ذلك؟
قال الابن: ألا تراهم كلما قام أحدهم بفعل مشين يقولون له يا حمار! وكلما قام أحد أبنائهم برذيلة يقولون له يا حمار! أنحن حقا كذلك؟ يصفون أغبياءهم بالحمير. ونحن لسنا كذلك يا أبي. إننا نعمل دون كلل أو ملل. ونفهم وندرك، ولنا مشاعر ..
عندها ارتبك الحمار الأب ولم يعرف كيف يردّ على تساؤلات صغيره وهو في هذه الحالة السيئة، ولكن سُرعان ما حرّك أذنيه يُمنة ويسرة ثم بدأ يحاور ابنه محاولاً إقناعه حسب منطق الحمير.
انظر يا بني إنهم معشر البشر خلقهم الله وفضّلهم على سائر المخلوقات لكنّهم أساؤوا لأنفسهم كثيراً قبل أن يتوجّهوا لنا نحن معشر الحمير بالإساءة.
فانظر مثلاً… هل رأيت حماراً خلال عمرك كله يسرق مال أخيه؟ هل سمعت بذلك؟ هل رأيت حماراً يعذب بقية الحمير ليس لشيء إلا لأنهم أضعف منه، أو أنه لا يعجبه ما يقولون؟ هل رأيت حماراً عنصرياً يعامل الآخرين من الحمير بعنصرية اللون والجنس واللغة؟ هل سمعت عن قمة حمير لا يعرفون لماذا مجتمعين؟ هل سمعت يوماً ما أنّ الحمير الأميركان يخططون لقتل الحمير العرب! من أجل الحصول على الشعير؟ هل رأيت حماراً عميلاً لدولة أجنبية ويتآمر ضدّ حمير بلده؟ هل رأيت حماراً يفرّق بين أهله على أساس طائفي؟ طبعاً لم تسمع بمثل هذه الجرائم الإنسانية في عالم الحمير! ولكن البشر هل يعرفون الحكمة من خلقهم ويعملون بمقتضاها جيداً؟ لهذا يا ولدي أطلب منك أن تحكّم عقلك الحماري، وأطلب منك أن ترفع رأسي ورأس أمك عالياً، وتبقى كعهدي بك *حمار ابن حمار*، واتركهم يا ولدي يقولون ما يشاؤون. فيكفينا فخراً أننا حمير لا نكذب، لا نقتل، لا نسرق، لا نغتاب، لا نشتم، لا نرقص فرحاً وبيننا جريح وقتيل.
أعجبت هذه الكلمات الحمار الابن فقام وراح يلتهم الشعير وهو يقول: نعم سأبقى كما عهدتني يا أبي. سأبقى أفتخر أنني حمار ابن حمار ثم أكون تراباً ولا أدخل النار التي وقودها الناس والأحجار».
أنهى الحمار الوحشي الجميل والشجاع حديثه، ثم مضى يركض ببهجة عفوية عارمة وغاب في القطيع، فلم يعد بالإمكان تمييزه عن غيره.
***
ليتني كنت حماراً وحشياً وليس إنساناً وحشياً…!