أولى

الشعبويّة هي الفساد الأعظم ‏

البروفسور فريد البستاني*

 

اللبنانيون ليسوا شعباً غبياً كما يفترض بعض من يتولون مسؤولية شؤونهم المالية على وجه الخصوص. واللبنانيون متطلبون لكنهم واقعيّون، فهم يرغبون بأن تكون لهم أفضل سبل العيش، لكن إذا تمّت مصارحتهم بأن هذا دونه المخاطرة بالذهاب إلى الانهيار فهم قابلون لتفهم التقشف وشد الأحزمة، بشرط ألا يروا بأم العين مظاهر الثراء الفاحش والبذخ المبالغ به، على حديثي النعمة ممن تولوا إدارة مؤسسات الدولة، وأن يتحققوا من إغلاق مزاريب الهدر والفساد.

هذا كان في الماضي وهو اليوم قائم. فالمعنيون العاجزون عن معالجة الهدر والفساد لا يجرؤون على اتخاذ قرارات صحيحة اقتصادياً، حتى لو اقتنعوا بها، لأنهم يخشون ردة فعل الناس عليها وعليهم، وهي على العموم ردة فعل على التقاعس عن مواجهة الهدر والفساد، كما هو الحال الذي يقدمه المثال البسيط عن حقوق اللبنانيين في الوصول إلى ودائعهم، سواء حق السحب أو حق التحويل، فلو وثق اللبنانيون أن هناك قواعد واحدة تطبق على الجميع من دون استثناءات ومحسوبيات، لتعاملوا بطريقة مختلفة مع الأمر، لكنهم عندما يرون أن التحويل لحساب طالب في الخارج متعذّر بآلاف الدولارات، بينما تحويل الملايين متاح لصاحب حظوة، فمن الطبيعي أن يستشيطوا غضباً.

تثبيت سعر الصرف اليوم، أصعب وأخطر من تثبيته في الماضي، وهو لا يصلح أن يكون وعداً تقدّمه حكومة أو يتعهده مسؤول، إلا من باب الشعبويّة ذاتها، أي الخشية من غضب الناس، ولو أدى ذلك إلى استنزاف مقدرات بالعملات الصعبة هي بالفعل حق الناس لتأمين احتياجاتها الأساسية، ومثله طريقة تسعير المشتقات النفطية، وليس الخبز بالتأكيد. وكل مسؤول يعلم أنه لن يكون مقدوراً على الحفاظ على آلية تسعير تعتمد سعر الدولار على 1500 ليرة وسعر برميل النفط على 40$، إلى ما لا نهاية، وأن مواصلة ذلك ليس إلا استنزافاً في غير مكانه لموارد هي ملك الناس، والمطلوب الثقة بصدق المسؤول، وبعدم التساهل مع الهدر والفساد، ليتقبل اللبنانيون سلة إجراءات قابلة للاستمرار، تتيح لهم عبور المرحلة الصعبة.

حتى الآن لا شيء يراه المواطنون سوى الدعوة لانتظار نتائج المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وبالانتظار يتم هدر مقدرات يجب أن تنفق بطريقة رشيدة لتوفير الصمود أطول فترة ممكنة، بعدما اختبرنا طريقة أنفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب، فلم يأتنا ما في الغيب ولن يأتينا. وهكذا وقعت خديعة تبخر الودائع، لحماية سعر الصرف، وإشراك اللبنانيين بعائدات التصرف غير المشروع بودائعهم، بينما كان المسؤولون المتورطون بالهدر والفساد، يجنون أضعافاً مضاعفة لما منوا على اللبنانيين من شحم جسدهم للتنعم به، ويجري اليوم تنويمهم مغناطسياً على وعد شعارات من نوع استعادة المال المنهوب.

لا أحد يريد الاعتراف ومصارحة اللبنانيين بأن الأموال التي يمكن توثيقها كنهب عائد من الفساد الجنائي وحجمه قياساً بالفساد السياسي في نظام قائم على معادلات فاسدة مشرعنة وشعبية، أقل بكثير مما يظنه اللبنانيون ويعدهم المسؤولون عبر التضخيم الشعبويّ لها، بانها أموال تعادل الخسائر وستستعاد وتكون الحل. هناك للأسف قناعة شعبية رائجة قائمة على وهم كاذب، لا يجرؤ السياسيون على قول الحقيقة المرة بصددها، والحقيقة هي أن الفساد الذي يمكن للملاحقة القضائية الجنائية أن تطاله لا يشكل إلا نسبة ضئيلة من حجم المال الضائع على لبنان، قياساً بالمال الذي تم إهداره من خلال سياسات التوظيف والتلزيم وتسيب الخدمات العامة وتمويلها بالديون المرتفعة الفوائد، ومثلها تمويل تثبيت سعر الصرف.

 مثال الكهرباء يكفي لمعرفة أن الحقيقة لا تكمن في خطاب المزايدات الذي يتحدّث عن عشرات مليارات الدولار كمال منهوب، فالعمولات والسمسرات موجودة حكماً في صفقات الكهرباء، لكنها لا تكاد تشكل نسبة بسيطة من هذا المبلغ، بينما جوهر الأزمة يكمن بثنائية التهرب من التخلي عن تسعير منخفض للكهرباء وملاحقة الجباية المحدودة، مع تلكؤ في تأمين كهرباء مستدامة 24/24، وتمويل الانتظار من ديون بفوائد مرتفعة، لتأمين الفيول المتحرّك بأسعاره على إيقاع سعر النفط، وهكذا تمّ تعميم عائدات هذا الهدر على الشعب كله، كما في التوظيف الفوضوي والانتخابيّ، حيث تم حشو القطاع العام بآلاف الموظفين بلا مبرر وهم يتقاضون رواتبهم من المال العام حتى اليوم، كما حدث مثل ذلك. وهذا هو الأهم والأعظم والأكبر والأخطر، في سلسلة الرتب والرواتب بالتوازي مع تثبيت سعر صرف الدولار، وتمويل كليهما من دين مرتفع الفائدة، بحيث إن المفاجأة غير السارة التي تنتظر اللبنانيين عندما يشتغل القضاء بكامل طاقته، وبلا حصانات، هي أن الرقم الفعلي الموثق للمال المنهوب القابل للملاحقة الجنائية، لن يشكل إلا نسبة ضئيلة مما ينتظره اللبنانيون لأرقام المال المنهوب. فالفساد الأصلي هو فساد نظام قائم على إعادة إنتاج الزعامات السياسية من بوابة خدمات وعائدات ومستوى عيش، بصورة لا تتناسب مع مقدرات الدولة، وعبر عملية لحس مبرد اسمها الاستدانة بفائدة مرتفعة لتثبيت سعر الصرف، أي تثبيت القدرة الشرائية للبنانيين، بل وزيادتها عبر سلسلة الرتب والرواتب التي تسببت وحدها بزيادة الاستيراد بأربعة مليارات دولار منذ عام 2017، وتسببت بنزيف إضافي في ميزان المدفوعات يقدر بملياري دولار واحد منها برز بزيادة في النفقات السياحية الخارجية وثانٍ في زيادة مضاعفة التحويلات الناجمة عن تضاعف عدد العاملات المنزليّات.

لقد آن الأوان لرسم سياسة مالية واقتصادية شفافة وصادقة، توازن في استثمار المقدرات الموجودة لضمان الصمود أطول فترة ممكنة، وبالتوازي وضع خطة تتيح النهوض قبل استنفاد هذه المقدرات، وللأسف ليس هذا ما يجري.

*عضو في مجلس النواب اللبنانيّ.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى