الأدب وماهية الفعل الأخلاقيّ
} رامونا يحيى*
تجدر الإشارة، بادئ ذي بدء إلى أنّنا سنخصّص هذه المقالة لتبيان العلاقة الوثوقيّة التي تجمع الأدب بماهيّة الفعل الأخلاقي، على أن نعرض في مقالات تالية للبعد الأخلاقي في الأدب الوجيز.
تقدّم الأعمال الأدبيّة شخصيات ومواقف تحتاج عادةً إلى قرارات أخلاقيّة صعبة يتمكّن القارئ من خلالها، تعميق منظوره الأخلاقيّ الشّخصيّ. وتكون هذه المواقف المعروضة في الأدب معقدّة إلى درجة لا يجدها في مواقفه اليوميّة. ومع ذلك، فهو يتعلم منها من دون أن يكون مضطرًا إلى مصادفتها في حياته الشّخصيّة أو اتخاذ قرارات أخلاقيّة مثلها. ويستطيع القارئ مشاهدة هذه المواقف من دون تحيز، الأمر الذي لا يستطيع تطبيقه إلا نادرًا في حياته اليوميّة عندما يكون منهمكًا في سيل من الأفعال. ومن جراء رؤيته لهذه المواقف، بطريقة موضوعيّة، وعبر تفكيره بها، يصبح قادرًا على صنع قراراته الأخلاقيّة الشّخصيّة بشكل أحكم عندما تدعوه الحياة لذلك. وربما يستطيع الأدب أن يكون حافزًا لا مثيل له للتّفكير الأخلاقيّ، لأنّه يقدم الخيار الأخلاقيّ بمضمونها التّام من دون أن يترك شيئًا ذا صلة بهذا المضمون.
ولعل قوة الأدب الرئيسة في المجال الأخلاقيّ تعود إلى مقدرته الفريدة على تطوير ملكة التّخيل في النّفس وإيقاظها. فمن خلال الأدب يُحمل القارئ إلى ما يتعدى حدود عالمه الضّيق، الذي يسكنه معظم النّاس، إلى عالم من الأفكار والمشاعر أكثر عمقًا وتنوعًا، إلى عالم يستطيع فيه أن يتقاسم الخبرات مع كائنات إنسانيّة بعيدة عنه في الزمان والمكان وفي المواقف وفي طرق العيش. ويجعله قادرًا على الدخول مباشرةً في العملية العاطفيّة للمخلوقات البشريّة الأخرى. وعندما يتم ذلك لا يعود القارئ المدرك قادرًا على الحكم السّلبيّ أو النبذ الكمّيّ لشرائح إنسانيّة كبرى بوصفها غريبة أو لا تصلح لشيء لأنّ العمل الأدبيّ الناجح يبرزهم في الحياة كأفراد مدفوعين بالعواطف ذاتها التي لديه. يجابهون التّحديات مثله، ويجربون الاختبارات القاسية والمرة كما هو يجرب. ومن خلال هذا التّمرين للمخيلة الوجدانيّة، يقوم الأدب بتقريب النّاس بعضهم من بعض بدلًا من تفريقهم، ومن ثمّ، يهدف الأدب إلى توحيد الجنس البشريّ بطريقة أبعد بكثير من الوعظ والتّربية وأقوى بكثير من المقالات العلميّة والوصفيّة لعلم النّفس أو علم الاجتماع، كما أنّه يكشف عن الطّبيعة الإنسانيّة الواحدة الموجودة في كل فرد وراء واجهة ونقاب العقائد التّقسيميّة والإيديولوجيات السّياسيّة، والمعتقدات الدّينيّة.
تُطور أعمال الأدب، إذن، الملكة الإنسانيّة على التّخيل أكثر من أي شيء آخر. وقد قال الشاعر الإنكليزي في القرن التّاسع عشر برسي شيلي إنّ الخيال هو الأداة الوحيدة والأعظم للخير الأخلاقيّ. وقد تبدو هذه الجملة وكأنها مبالغة، ولكنّها تصور حال الأخلاق من دون مخيلة. أو الأخذ بعين الاعتبار الأخلاقيّة العادية لمجتمع صغير، معزول نسبيًا عن مراكز الثّقافة والحضارة وغير متزامل مع أي تقليد فنّيّ، فترى أنّ أخلاقيته صارمة ومفيدة، وتفاصيل الحياة الشّخصيّة لكلّ عضو في هذا المجتمع مسيّجة بالمزعجات.
إنّ الأدب هو الذي يزوّدنا بأشد وأحدّ الاختبارات الإنسانيّة المتاحة وأكثرها تركيزًا ولهذا يمتلك الأدب تأثيرًا هائلًا في أنماط الحياة الإنسانيّة. فتأثيره أقوى من أي نسق أخلاقيّ بكلّ تأكيد. ومن جراء قدرته هذه يمكننا القول بالمعنى الواسع على الأقل بأنّ لديه تأثيرًا أخلاقيًّا في حياة الإنسان. وإذا كانت الأخلاقيّة تتجاوز في مفهومها بعض الأنساق الخلقيّة فالأدب يضطلع بهذه المهمّة أيضًا بوصفه يملك التّأثير الطّاغي في الحياة اليوميّة للكثيرين، فضلًا عن كونه يتسامى بهم.
*الأدب الوجيز.