في غيابك حاضر
لم أنسَ عيد الأب، لكنّني وصلتُ إليه متأخرة، تماماً كما كنت تفعل دائماً، وأحياناً، كنتَ لا تصل أبداً..
نعم يا أبي.. أنت لم تكن الأب المثالي ولكن.. هناك الكثير من الأشياء الجميلة التي أستطيع أن أتحدّث فيها عنك لساعات وساعات كتلك التي كانت ترويها عنك جدتي المرحومة. ربما كانت هي السبب في أنها جعلتك طفلاً لا يكبر ومراهقا لا ينضج أبداً.. كيف لا وأنت صغير أخوتك والمدلّل بينهم.. قبل أن أقوم بدور الإبنة التي تمدح أباها اسمح لي أن أعبر المحطات التي انتظرتك فيها ولم تأتِ..
عند مفترق طفولتي، حين أزهر الربيع في خدّي، كنتَ على بُعد محيطات مني مشغولاً بشراء الهدايا لكل من حولك.. كنت تأتي من غربتك محمّلاً بالهدايا والعطور الفرنسية والكريمات حتى صار الجميع ينتظر عودتك أو ربما ينتظر الهدايا.. لا أعلم إن كنت تفعل ذلك بداعي المجاملة ام أنك شربت جرعات مفرطة من الطيبة من حضن أبيك.. لا يهم.. لكن يا أبي ما أريد أن أقوله لك إن كل تلك العطور التي اشتريتها لي ولأمي لم تعوّض لنا عن رائحة تعبك حين كنت تعود من عملك في مصنع الحديد قبل أن يبتسم لك الحظ ويغمزك الحلم في بلاد الاغتراب.. ما زلت أشتهي عناقاً يعيد لي تلك الرائحة..
عند مفترق الحب انتظرتك… حين أزهرت نبضة الشغف الأولى في قلبي انتظرتك.. كنتُ أحتاج إلى أن تخبرني أيّ شيء عن ذلك اللغز الذي حاولت البحث عنه مراراً في مكتبتك.. في قصائدك.. في رسائلك الشاعريّة إلى أمي، لكنني لم أفهمه بل خفته كثيراً.. فأمي كانت ترسمه لي دائماً على أنه عيب وأنّه على الفتاة أن لا تحب إلا حين تتزوّج. وحين اختار لي القدر يوم زفافي في حضرة غيابك وغربتك، كان على عمّي أن يحلّ مكانك لأنني كنت قاصراً حينها، ولم أبلغ بعد سن الزواج..
يوم ارتديت فستان فرحي كنت غائباً.. يوم خلعت خاتم زواجي كنت غائباً.. كنت غائباً عند مفترق كل المشاعر لكن يا أبي أتعلم؟ ربما لو لم تنُب عنك مكتبتُك، ولو لم أستمع إلى تلك الأحاديث والقصص والحكايات التي كانت تحتفظ بها جدران منزلنا، لكان قلبي يتيماً وعقلي مشرداً..
كل عام وأنت في غيابك حاضر..
ناريمان علوش