فزّاعة الشرق والغرب ألعاب بهلوانيّة للزوم التحشيد؟!
} د. وفيق إبراهيم
يخترع اللبنانيون مواد جديدة تزوّد صراعاتهم على السلطة بشحنات من الإثارة والتشويق تستثير الداخل المحلي وتجذب محاور الخارج.
آخر هذه الإبداعات جاء على شكل إطلاق نقاشات حادة تعتبر أي تعامل اقتصادي مع الصين وروسيا بمثابة تخلٍّ عن ثقافة الغرب والالتحاق بثقافة الشرق، أما العمل على فتح الحدود مع سورية لإعادة تأسيس ميدان اقتصادي كبير للسلع اللبنانية فهذا عمل شيطانيّ يصب كما تزعم الأبواق المحلية في خانة تأييد إيران، فما حكاية هذه الاتهامات؟!
لا بد من الإشارة إلى أن العالم بأسره ودوله وقاراته هو إما جزء من ثقافة الغرب أو أنه يؤيدها بالتقليد.
هناك محاولة جرت للخروج من هذه الثقافة بنموذج الاتحاد السوفياتي الذي حاول منذ 1917 تعميم فكرة نظام سياسي يدفع باتجاه ثقافة مختلفة عن الثقافة الغربية، وذلك بنزع نتائجها الاحتكارية وتعميم مبدأ المساواة في السياسة والاقتصاد.
لقد بدأت الحكاية مع الاستعمار الغربي للعالم الذي سرق ثروات الشعوب، معاوداً استثمارها على شكل ثورات صناعيّة شملت إنجلترا وفرنسا.
هذا التقدم الصناعي هو سلع يحتاجها استمرار إنتاجها إلى أسواق مستهلكة. فكيف يمكن للأفريقي والآسيوي والشرق أوسطي أن يستهلك بضائع ليس بحاجة إليها؟
لذلك ذهب الغرب نحو تحقيق تماثل شكلي بين دوله مع مئات الدول التي اخترعها في معظم أنحاء العالم معمماَ فكرة العلاقة بين التطور والاستهلاك.
فالمثقف هو المستهلك وكلما كانت السلعة غربية كان مستهلكاً متطوراً.
لقد أدت هذه المعادلة إلى ارتباط عضوي بين الإنتاج الغربي والاستهلاك والاستتباع السياسي، حتى أصبح أي تغيير في أي ركن منه انقضاضاً على الثقافة الغربية والاستقرار السياسي والأمن العالمي.
للتنبيه هنا، فإن العالم مستقر على هذا السياق الاستهلاكي الغربي، خصوصاً بعد سقوط النموذج السوفياتي المنافس على مرحلتين: إضعافه منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي وإسقاطه في 1989م.
هذا إلى جانب تبني الصين النظام الغربي في تسويق السلع إنما من دون فكرة احتلال الدول واستتباعها ونشر فكرة الاستهلاك.
لقد ورث الصينيون المعادلة الغربية القديمة مستفيدين من نظام العولمة الذي فتح الحدود السياسية، والسلعة الرخيصة الثمن التي سيطرت على الطبقات الوسطى والفقيرة في معظم بلدان العالم.
هكذا نرى «صيناً» رأسمالية الصناعة والتسويق والاستثمار بخلفية شيوعيّة أصبحت في متحف التاريخ أو لم يعُد يتذكّرها حتى أصحابها.
بذلك تتبين سيطرة الثقافة الغربية بمعناها الاستهلاكي المروج للسلع على العالم بأسره، ولم يعد هناك ثقافة غربية أو شرقية فإيران المحاصرة مُنهمكة بالدفاع عن جمهوريتها، بما حال دون طرحها لثقافات جديدة.
إن هذه المعطيات تكشف أن الصراع اللبناني الداخلي ليس ثقافياً، بل ينتمي إلى فئة الصراعات السياسية ذات الأبعاد الاقتصادية والاستراتيجية.
فهناك تأسيس فرنسي لكيان لبنان، استتبع منذ تشكله للسياسات الغربية التي اعتبرته ضرورة للتدخل في الهويات العربية المجاورة.
وكان لزاماً على هذه القوى الدولية أن تؤيد الفئات التي تعتبر أن هذا «الغرب» هو الداعم لها.
هذه الفئات ليست طوائف، لكنها استثمرت في التعدديات الطائفية والمذهبية لتمكين سيطرتها على الدولة.
لمزيد من التوضيح، فإن النظام اللبناني يشبه كل أنظمة العالم بتقليده النموذج السياسي الغربي والتعليم الغربي والطعام الغربي واللباس الغربي بما يؤكد ما قاله ابن خلدون في مقدمته بأن «المغلوب يتشبّه بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه… وعقله». يتضح إذاً أن هذه الثقافة الغربية تسيطر على العالم من لبنان إلى الصين وروسيا والغرب بأسره وأفريقيا واستراليا وكندا… لجهة لعبة السلعة والاستهلاك بما يؤكد أن الصراع الأميركي – الصيني ينتمي إلى فئة الصراع على الأسواق من ضمن المعادلة الغربية وليس على أساس نسقها.
وهذا يلغي فكرة الصراع بين شرق وغرب في الساحة اللبنانية، معيداً المسألة إلى تنافس اقتصادي لا يبدّل في الانتماءات السياسية للدول قيد أنملة، فلو أراد لبنان تغيير ثقافته الحالية فما هو بديلها؟!
لذلك يجب وضع الاستعانة بالصين وروسيا على المستوى الاقتصادي ضمن إطاره الاقتصادي الصرف، بأبعاده السياسية وليس الثقافية.
لا سيما أن الانهيار الاقتصادي الحالي في لبنان إنما تسبب به نظام سياسي محلي موالٍ للغرب الأوروبي – الأميركي. فسرق أموال اللبنانيين بحماية غربية في العقود الثلاثة الأخيرة.
ويعمل حتى الآن على حماية هذا النظام ويمنع تبديله بوسائل شتى، مركزاً على إقصاء كل ما يشكل خطراً على الكيان الإسرائيلي المحتل.
لذلك فإن اختراع بعض القوى اللبنانية الغربية الاتجاه لمسألة ربط بين العلاقات الاقتصادية والاتجاهات الثقافية، إنما هي تغطية لمحاولة استهداف حزب الله، بما يشكّل من حماية للبنان من الخطرين الإسرائيلي والإرهابي.
للإيضاح فإن صندوق النقد الدولي ومؤتمر سيدر هما آليتان يسيطر عليهما الغرب السياسي، وتتمنّعان حتى الآن عن مد لبنان بالديون، ليتبين آنفاً أن هناك شروطاً سياسية استراتيجية، منها إقفال الحدود مع سورية ومنح الكيان الإسرائيلي نصف آبار الغاز اللبنانية عند الحدود مع فلسطين المحتلة.
فهل يصدق أحد حكاية الشرق والغرب؟!
هذه خزعبلات جديدة لبعض القوى اللبنانية التي تريد الاستمرار بالإمساك بالتاريخ بقوة الخارج، وتزعم أنها تعمل من أجل بلدها الذي سرقته وامتصت دماءه حتى سقط مُنهكاً، يبحث عن معيل في كل الاتجاهات ومصراً على حقيقتين لا يبدلهما أبداً وهما أن أعداء لبنان هم سياسيّوه، والكيان الإسرائيلي المحتل.