كيف يواجه لبنان تحدّيات الأمن فيه ومخاطره؟
العميد د. أمين محمد حطيط _
بعد التحرير في العام 2000 وبعد تثبيت منظومة الأمن اللبناني الذي اتخذت عمودها الفقريّ الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي بمؤازرة ومساندة غير مباشرة من الجيش العربي السوري الذي كان منتشراً في بعض مناطق لبنان خاصة البقاع والشمال وبعض الجبل وبيروت، وفي ظلّ استمرار المقاومة على سلاحها في مواجهة “إسرائيل” حصراً من دون أن تكون للسلاح وظيفة أخرى، في ظلّ هذه البيئة الأمنية صنّف لبنان عالمياً بين الدول الخمس الأكثر أمناً في العالم، ولطالما كان يباهي العماد إميل لحود بهذا التصنيف في السر والعلن، حيث كان يعتبره ثمرة من ثمار عمله في الشأن العام من قيادة الجيش إلى رئاسة الجمهورية.
بيد أنّ الأمن اللبناني تعرّض لزلزال عنيف ضربه عندما استهدف الرئيس السابق للوزراء رفيق الحريري بعملية اغتيال أودت به مع جمع من مرافقيه وأشخاص تواجدوا صدفة في المحلة التي حصل الانفجار فيها، وفتح ذاك الانفجار باب المخاطر الأمنيّة على لبنان على مصراعيه، وقد بدا يومها انّ الانفجار خطط له ليكون الممهّد لتنفيذ القرار 1559 الذي كان قد اعتمد في مجلس الأمن قبل 5 أشهر من التفجير وأن يكون (أي الانفجار القاتل) جزءاً من مسار يبدأ به يليه إخراج الجيش السوري ثم تكون فتنة واقتتال داخلي تعقبه حرب إسرائيلية على لبنان إلى أن ينتهي الأمر بتفكيك المقاومة ونزع السلاح المقاوم والانتقام من نصرها في العام 2000 بتحرير جنوب لبنان.
وفي التنفيذ نجحت الخطة – المؤامرة في مواطن وفشلت في أخرى لا بل حصدت نتائج عكسية فيها، حيث استجابت سورية لمتغيّرات البيئة الاستراتيجية في لبنان وسارعت إلى استعادة جيشها منه دون أن تفسح لأحد المجال بإغراقها في وحول تتشكل في لبنان، لكن الخطة فشلت في إنتاج حرب أهلية لأنّ المقاومة وأهلها مارسوا الذكاء والصبر الاستراتيجي والحكمة البليغة والمرونة العالية ففوّتوا فرصة الحرب الأهلية، أما حرب “إسرائيل” على لبنان فقد انتهت إلى عكس ما اشتهى المخطط وحققت نتائج سلبية فرضت على المخطط أن يتحوّل في مواجهة المقاومة من استراتيجية الحرب بالقوة الصلبة إلى الحرب بالقوة الناعمة وبعدها إلى الحرب بالقوة المركبة الذكية، وصولاً كما هو اليوم ما أضيف اليها من حرب اقتصادية شاملة وإرهاب اقتصادي إجرامي.
نعم انّ لبنان والمقاومة فيه وكل محور المقاومة يتعرّضون إلى حرب اقتصادية تكاد تحلّ محلّ الحرب بالقوة المركبة الذكية التي فشلت خلال السنوات العشر الماضية من تحقيق أهدافها، رغم أنها قتلت وشرّدت ودمّرت في سورية والإقليم بشكل وحجم ما ليس له سابق أو مثيل، والخطة الجديدة التي تقوم على هذه الحرب الخسيسة تتضمّن التجويع المنتج لخلل أمني يقود إلى فتنة فحرب أهلية تمهّد الطريق أمام “إسرائيل” لتنفيذ المهمة التي عجزت عنها في العام 2006.
إنّ الحرب الاقتصادية التي تشنّ على لبنان اليوم تترجم بهجوم كيدي لئيم ينفذ وفقاً لخطة محكمة تتضمّن عزل لبنان عن سورية بقانون قيصر، مترافقاً مع مضاربة على العملة الوطنية حتى انهيارها الكلي وحرمان المواطن من لقمة عيشه وفرض التجويع الظالم عليه ما يدفعه إلى الشارع مطالباً بقوت أبنائه، ويضعه أمام القوى الأمنيّة التي ستكون عرضة لاختبارات قاسية هي الأخرى لأنها ستوضع بين نارين: نار مقتضيات الأمن والنظام ونار مطالب الشعب المحقة، ثم تكون الآلة الإعلامية المعادية قد جهّزت كلّ شيء للتحكّم بالغضب الشعبي وتحويله باتجاه سلاح المقاومة ثم باتجاه بيئة هذا السلاح ثم إظهار الصراع على انه طائفي مذهبي كما تقتضي الخطة.
وعليه تكون مواطن الخطر في لبنان تبدأ بالحرب الاقتصادية وعمادها الخنق الإقليمي وانهيار النقد الوطني المنتج للجوع، ثم التشرذم السياسي وتغييب فكرة الوحدة الوطنية التي تحصّن البنية الداخلية، تغييباً يكون ضرورياً لإشعال الفتنة الداخلية الممهّدة للعنصر الثالث من الخطة تلك، أيّ الحرب الإسرائيلية التي تأمل “إسرائيل” أن تكون سريعة خاطفة تعيد إلى الأذهان تاريخ الحروب الإسرائيلية الصاعقة.
ومن يدقق اليوم بالمواقف والتطورات يجد أن الخطة هذه وضعت على نار حامية، حيث أطلق قانون خنق سوري بيد أميركية وأسمي “قانون قيصر”، وبدا الانهيار المتمادي يفتك بالليرة اللبنانية، وامتنع الفريق السياسي الذي تتحكم به أميركا من المشاركة في تظهير صورة وحدة وطنية تحصّن الأمن القومي اللبناني، وتتصاعد الأحاديث كما الممارسات التي توحي بأنّ شهر آب أو أيلول المقبل سيشهد حرب “إسرائيل” الأخيرة على المقاومة ولبنان، حرباً تدمّر ولا تبقي ولا تذر، حرباً تكون السهم المسموم القاتل الأخير للمقاومة ولبيئتها. فهل تنجح الخطة – المؤامرة تلك؟
لقد اختار عدو المقاومة وعدو الشعب اللبناني عناصر وأدوات غير مشروعة لا بل اعتمد الإجرام الموصوف في وضع خطته تلك التي استندت إلى التجويع الممهّد لارتكاب جرائم الإبادة الجماعية واختار الفتنة التي تترجم ناراً بين الأخوة والشركاء في الوطن واختار النار الحارقة والمدمّرة التي تتوسّل اليها “إسرائيل”، اختار الإجرام وهو يظن ان النتائج هذه المرة ستكون مضمونة.
وفي المقابل نجد المدافعين الحقيقيين عن لبنان وضعوا استراتيجيتهم الدفاعية وهم يأملون منع العدو من تحقيق أهدافه، وهنا نسجل بتقدير عال جداً مواقف السيد حسن نصر الله في كلمته المتلفزة الأخيرة والتي تعتبر فعل ردع محكم بامتياز وتختصر بالقول “إننا واعون لمؤامرتكم وسنقتلكم قبل أن تقتلونا”، وأرسي في مقابل معادلة العدو “الاستسلام أو القتل جوعاً” معادلة “الرحيل عنا او تقتلون”.
أما رئيس الجمهورية فقد سارع إلى الدعوة إلى لقاء وطني ليس المطلوب منه أكثر من صورة جامعة وموقف وطني يرفض الفتنة ويمنع المواجهات في الشارع ويخفف عن القوى الأمنية أعباء إضافية لحفظ الأمن والنظام، وصحيح انّ من هم مسيّرون من الخارج امتنعوا عن الحضور خدمة لما يخطط للبنان، إلا أننا لا نرى أنّ غيابهم سيسقط المشهد الوطني شبه الجماعي على رفض الفتنة، لأنهم رغم غيابهم لم يجرؤوا على إظهار مواقفهم الحقيقية بل نسبوا الغياب إلى مواقف شخصية من هذا أو ذاك ممن هم في السلطة.
أما المعضلة الأهمّ والأصعب فتبقى متمثلة في الموضوع الاقتصادي والانهيار النقدي، وهنا التحدي الأولي الأكبر وعلى الحكومة أن تواجه هذا التحدّي بكلّ شجاعة وعزيمة وطنية وتتخلّى عن النهج التقليديّ اللبنانيّ التحاصصيّ وتوقف حماية الفاسدين وعليها أن تدرك وتتصرّف على أساس هذا الإدراك ان المستفيد من الفساد لا يمكن ان يكون داعية إصلاح. فقواعد المنطق والقانون الطبيعي تؤكد بانّ المخرب الهدام لا يُدعى للبناء، والقاتل المجرم لا يُدعى لحفظ الأمن، والفاسد المفسد لا يوكل اليه الإصلاح، والسارق الناهب لا يؤتمن مجدداً على المال العام، والمتعامل مع العدو لا يُدعى إلى التحرير.
إن لبنان يواجه التحدي الاقتصادي والإجرام الاقتصادي القاتل الذي سيبلغ أهدافه ويحققها ان لم تكن هناك مواجهة جدية لوقفه. وهذا المواجهة يجب ان تبدأ بإزاحة كلّ من ساهم بالانهيار وأصغى إلى الإملاء الأميركي في إنتاجه. وعلى المسؤول أن يعلم ان اتكاء الموظف اللبناني على القوة الأميركية لتحميه يعني فشل لبنان في المواجهة، لأنّ ذاك الموظف سينفذ خطة أميركا ولا يعير وزناً لمصلحة لبنان.
وإذا لم يواجه التحدي الاقتصادي كما يجب فإنّ التحدي الأمني الذي سينتجه الجوع سيكون ثقيلاً وسيفرض على الجيش اللبناني وقوى الأمن اللبنانية أعباء قد تنوء أكتافهم عن حملها رغم ما لديهم من قوة ومن وطنية، ولكن يجب أن نتذكر انّ لكلّ شيء حدّاً ولكلّ مكوّن طاقة لا يمكن ان يتعداها… وهذا ما نخشى منه في المسألة الأمنية أن تتعدى الأمور طاقة الدولة وعندها ستضطر المقاومة وخلافاً لنهجها ان تعمل في الداخل حماية لنفسها وللسلم الأهلي. وستضطر المقاومة لذلك لأنها تعلم انّ الانهيار الأمني في الداخل هو بطاقة دعوة جدية لـ “إسرائيل” لشن الحرب الاستلحاقية على لبنان، ولنتذكر انّ حرب 2006 لم تنته بعد بوقف إطلاق النار بل جلّ ما جاء به القرار 1701 هو وقف الأعمال القتالية التي يمكن ان تستأنف في أي لحظة.
وهنا ورغم ثقتنا بأنّ ما يحلم به المخطط هو أوهام يصعب تحققها، وانّ الفتنة في الداخل لن تترك لتتحوّل حرباً أهلية، وانّ “إسرائيل” لن تجرؤ على استئناف الحرب لأنّ ما بيد المقاومة من قوة كافٍ وأكثر من كافٍ ليقنع “إسرائيل” بأنّ حربها على لبنان انتحار لها، ما يعني ان تحدّيين من ثلاثة مقدور عليهما وبكفاءة عالية رغم الكلفة، لكن يبقى التحدي الاقتصادي المخل بالأمن الاجتماعي على وجوهه كلها، يبقى هو الموضوع الأهمّ الآن الذي يجب أن يُعالج قبل فوات الأوان…
* أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي