وادي عودين
} د. قصي الحسين*
خرجت إبنة الصحابي أبي الأسود الدؤلي النحويّ، مع أبيها إلى طريق القمم. سلكها قبله نبوخذ نصر، وأسرحدون. من نبع الصفا في وادي خالد، إلى وادي السباع، وقلعة أكروم وسفوح وادي عودين وكرم شباط والشنبوق وبيت جعفر والقموعة، ووادي فيسان. إلى العاصي، والهرمل والقاموع وبعلبك والبقاع، ووادي التيم. وسهل الحولة، ونهر الأردن وفلسطين والقدس.
استأذنت البنت أباها، فوق «وادي عودين» العظيم. على مشارف جبال أكروم، المطلة على بلدات: شدرا وعندقت والقبيات. قالت له: يا أبتي: ما أجمل (بضم اللام) عودين! فقال: جباله، وعمق واديه، واتساع جانبيه للكروم. فقالت له: لا يا أبتي. أنا لا أستفهم. بل أتعجّب: أسرني هذا الوادي بسحره. فاندهشت من شدّة الأسر، وأردت أن أتعجّب تعجّباً. فتعجّبت. ولذلك تراني لا أزال مندهشة. أتعجب من جمال النحر، ومن شدة السحر. في هذا الوادي الرائع العظيم. قال لها: قولي إذن: ما أجمل (بفتح اللام) عودين. هكذا يرد النحويون عادة على الالتباس، بين السؤال والتعجّب.
حقاً، يتوازى وادي عودين، في عيني زائره، كما أمام سرير العروس: النحر والسحر. تماماً كما يتوازى الاستفهام عن تآليف هذا الوادي العريق، والتعجب من سحره الأخاذ.
سرير الطبيعة المدهش في «وادي عودين» الذي تحدّث عنه أفلاطون افتراضياً، يتكئ رأسه، على رأس القموعة وكتفه على قمة القلعة في «عوروبة». وينبسط صدغاه، على الشنبوق وكرم شباط والبستان في بيت جعفر. ثم يمد يده اليمنى إلى سفوح جبال أكروم العظيمة المكللة بالصنوبر والسرو والشوح والشربين واللبان. تحرسها قلعة أكروم المهيبة. نقشت على إحدى لوحاتها في الصخر، صورة نبوخذ نصر يؤدي التحية بيده للشمس. وهو في طريقه إلى القدس.
أما يده اليسرى الضخمة العظيمة، فتتلألأ عليها، سبع بلدات. كانت تجتمع إلى بعضها مثل الأقبية السبعة، فعرفت منذ ذلك الحين بالقبيّات:
القطلبة، بلدة غائرة في أعماق شبه محمية طبيعية، من الأشجار الحرجيّة، وتحتها إصطبلات البغال الضخمة، المعدّة لعبور الوديان العاصية. بالإضافة إلى الذوق، عاصمة القبيات، ومارتمورا وصولاً إلى الضهر وقبيات الغربية. قبالة سفوح بلدات السنديانة والبيرة وعكار العتيقة.
يسير ضوء الماء وضوعه، مثل مجرى اللجين من النبع إلى النهر: النبع في عودين، والنهر تحت أقدام بلدة عندقت.
يصل «وادي عودين» إلى سحره، في بلدة عندقت. هذه البلدة التي تنتشر على كتف الوادي المسحور، بأشجاره الحرجية، وبكروم البلدة المشهورة بالعنب والتين، والممتدة حتى كروم شدرا والعوينات ومنجز ورماح وعيدمون. و»قبور البيض» وشخلار، وبلدة دنكا الساحرة، تحت بلدة البيرة، وسراي مرعب بك. حيث غابة السنديان السحريّة.
يتابع وادي عودين العظيم، تقدّمه مع جبال أكروم، فيصل إلى بلدة شدرا. فيتسمّى النهر باسمها، فيعرف هناك بنهر شدرا.
ثم يتقدم النهر إلى مشتى حسن ومشتى حمود، فيصطدم بـ «تلة الشيخ محمد»، حيث قبر أحد الصحابة، كان تحت شجرة السنديان الضخمة، التي رماها الزمان، فيفترع إلى رافدين:
الرافد الشرقي، الذي يروي أراضي شدرا العقارية الشرقية. وتنتهي سواقيه، إلى عيون «تل التين» المحروسة والمشهورة. يرفدها «نبع الصفا» القادم من تحت أقدام بلدة «بيت خلف» و»رجوم بيت حسين» في وادي خالد، وبلدة «المونسة». أول بلدة في الطريق إلى أكروم.
وأما الرافد الغربي، فيروي أراضي شدرا العقارية الشرقيّة، حتى «تلة البراغيت»، حيث دارت معركة الدنادشة مع الفرنسيين، وسكر «ياغوب». ثم يصبّ في النهر الكبير.
«وادي عودين» الذي يتمدد على سرير الطبيعة المهيبة، يتلوى في النهر، ذات اليمن وذات الشمال، فيروي الكروم، وتغني له السواقي أغانيها. تسمعها من بعيد، بحناجر الصبايا والشباب الزائرين المسحورين.
وأما أهالي القبيات وعندقت وشدرا، فيتخذون على ضفتيه، المقاهي والمصائف، والعرازيل. يرابطون فيه ببغالهم، ليعبروا عليها إلى الجرود.
حين تصل إلى وادي عودين، تكثر في نفسك الأسئلة عن طبيعة هذا الوادي، الذي يجب أن يتحوّل إلى محمية طبيعة، وعن القرى والبلدات والمزارع المحيطة به.
كذلك يأسرك جمال «وادي عودين» المهيب، فيصح لك أن تتعجّب. وهكذا يجوز فيه الوجهان، بقاعدة من الصحابي أبي الأسود الدؤلي.
«وادي عودين»، كثير السؤال وكثير الجمال. ويصح لزائره، أن يسأل كثيراً وأن يتعجب كثيراً. وبالتالي، أن يزوره كثيراً، معاً في آن.
*أستاذ في الجامعة اللبنانيّة.