التلذّذ بلحس المبرد ليس الحلّ بل هو المقتل
} علي بدر الدين
من الخطأ تحميل لقاء بعبدا وما صدر عنه ما لا قدرة له على تحمّله، وقد قاطعته قوى سياسية وطائفية ومذهبية لاعتبارات ومصالح خاصة أو عامة لها امتداداتها خارج الحدود، حيث اكتفى المشاركون فيه بإلقاء كلمات معدّة سلفاً كانت بديلاّ عن الحوار الموعود ولم يتخلله سوى ردود فعل واتهامات وتصويب ونبش مواقف من الماضي انتهى زمانها ومفعولها ولم تعد تصلح للبحث والنقاش. وانتهى اللقاء ببيان مكتوب تضمّن قراءة لواقع الحال السياسي والأمني والاقتصادي والمالي والمعيشي والقلق على الوطن والمصير وإطلاق الوعود والدعوات التي باتت عبئاً على اللبنانيين، وتكراراً مملاً لا قيمة له ولا منفعة منه وتشكيل لجنة لتضاف إلى لجان سبقتها وميّزت حكومة «مواجهة التحديات» عن غيرها… لأن هذا ما يمكن فعله.
ليس من حق المقاطعين رمي سهامهم الناعمة الملغومة أو المسمومة باتجاه اللقاء ومضمون بيانه لأنهم شركاء في السلطة، منذ اتفاق الطائف، وبعضهم قبل ذلك أيضاً، والمسؤولية مشتركة في انهيار البلد وإفلاسه الاقتصادي والمالي، وفي تراكم الديون على اختلافها، وفي إفقار الشعب وتجويعه وتحويله الى عاطل عن العمل.
إنّ الطبقة السياسية التي حكمت وتسلطت هي المسؤولة عن الخراب الذي أصاب لبنان لاعتمادها منذ عقود نهج الفساد والمحاصصة والمصالح والتعاطي مع الشعب اللبناني بسياسة فرّق تسد والاحتقان الطائفي والمذهبي البغيض والبرطلة والغش والخداع، وهي وليس غيرها المسؤولة أيضاً عن رفع ركام ما هدّمته وخرّبته وإعادة ما نهبته وهرّبته من أموال عامة وخاصة وفوقها أموال المودعين في المصارف التي لا يمكن لها أن تتجرأ على فعلتها والسطو على ودائع اللبنانيين من دون تغطية سياسية سلطوية وتواطؤ مع حاكم مصرف لبنان، ومن دون شراكة ثلاثية السلطة والقطاع المصرفي والحاكم لم يتجرأ الصرافون المرخص لهم أو أسياد السوق السوداء من المتلاعبين الصغار والكبار التحكم بسعر صرف الدولار وتداعياته الخطيرة على العملة الوطنية التي تتجه إلى الصوملة حيث تباع على الأرصفة لانعدام قيمتها الشرائية وانخفاضها المقلق.
وإذا أخذ البعض علينا أننا حمّلنا المسؤولية أو بعضاً منها للذين قاطعوا لقاء بعبدا لأننا اعتبرنا أنّ مشاركتهم مطلوبة وهي فرصة أو محاولة علها تنجح في بلورة موقف وطني موحد ومأمول حصوله، أو تضييق هوّة المصالح والخلافات الشخصية وإضاءة شمعة بدلاً من لعن الظلام لأنّ وقت هذا الظلام قد حان واقترب مع فقدان مادة المازوت وغيرها من المحروقات، والوعد بإغراق لبنان بالظلام وبرفع الدعم عن السلع المدعومة الأساسية والضرورية لمعظم شعوب العالم. وأعتقد انّ هذا الوعد سيتحقق خلاف وعود العهود والحكومات والزعامات بالإصلاح والقضاء على الفساد وكشف الفاسدين وكثير من الوعود التي ظلت حبراً على الورق وكلاماّ في الهواء حتى وصل البلد الى القعر الذي لا نجاة منه إلا بمعجزة في زمن لا معجزات فيه.
انّ لقاء بعبدا الذي تمخض عنه بيان ولجان ووعود يمكن اعتباره محاولة لشدّ العصب الوطني وتحصين الجبهة الداخلية من أيّ اختراق او فوضى أو فلتان أمني لا أحد يعلم تداعياته او يملك القدرة على ضبطه، في وقت يتعرّض فيه لضغوط وحصار من صفقة القرن وقانون قيصر ومن طبقة سياسية أنهكت الدولة ومؤسّساتها وثرواتها واختلست المال العام والخاص وزلطتها وحوّلتها إلى هيكل عظمي أحوج ما تكون الى ترميم وعودة الروح اليها، وحتماً لن يكون ذلك على أيدي الطبقة الحاكمة التي أوغلت فيها فساداً ونهباً وتحاصصاً وإفقاراً وتجويعاً للشعب. كما لا يمكن إنقاذ الوطن وقيامة الدولة بالطريقة التي يعتمدها المتحمّسون للنزول الى الشارع ودعوة الناس إليها غصباً عنهم، وقد اتعظوا من تجارب الحراك في الشارع وإقفال الطرق وإذلال العابرين الفقراء من دون نتيجة تذكر، ومن دون ان يخدشوا مشاعر أحد من القوى السياسية الحاكمة وغير الحاكمة ومن دون انتزاع أيّ مطلب مهما كان، بل على العكس تفاقمت المشاكل والأزمات وتفاقمت معاناة الشعب وانهارت العملة الوطنية وجاع الفقراء. طبعاً لا يتحمّل الحراك الشعبي المسؤولية على الإطلاق بل المسؤولية تقع على عاتق الطبقة التي حكمت ولا تزال بقوّة نفوذها وتسلّطها وإصرارها على المضيّ بسياسة هلاك لبنان وشعبه ولن تغيّر نهجها مهما حصل لأنها اعتادت على سلطة القهر والذلّ والفساد وعلى ان مصالحها فوق كلّ اعتبار.
على الحراك أن يدرك وقد أدرك بالتجربة الممتدّة من ١٧ تشرين الأول وما قبله وبعده أنّ إقفال الطرق في أيّ منطقة هو على المواطنين فقط وليس على الطبقة الحاكمة التي لتاريخه لم تتأذ منه وهي آمنة في قصورها وأبراجها المحصّنة التي لا يدخلها العامة من الناس ولا تنقطع فيها الكهرباء والمياه ووسائل التكييف والتبريد ولا أنواع الفواكه واللحوم والمسابح وصالات الرياضة وغيرها من كلّ وسائل الترفيه، فضلاً عن أعداد الحشم والخدم ولو طلبوا لبن العصفور يلبّى أمرهم، ولا حاجة لهم الذهاب الى الطبيب والمستشفيات إذا مرضوا وهم كباقي البشر لأن في قصورهم مسشفيات مصغرة وعيادات متنقلة وأطباء من مختلف الاختصاصات يسهرون على راحتهم وصحتهم وكله على حساب الدولة والشعب. هذه الحال تفرض على الحراك ان يبدّل في أسلوبه وتوجيهه في الزمان والمكان الى حيث يمكن أن يُحدث الفرق ويُحقق الهدف، وأن يدرك وهو كذلك أنّ لبنان بتعدّد طوائفه ومذاهبه وولاءاته الخارجية وارتهان الحاكمين فيه لمصالحهم لا ينتج ثورة أبداً لأن اللعب على أوتاره الطائفية والمذهبية يجرّ الى حروب وصراعات لا تنتهي وستقضي ليس فقط على الوطن بل على كلّ محاولة لإعادته كوطن واحد لمجموعات متنافرة ومتصارعة.
على الحراك أن يساعد الناس الفقراء على مواجهة قهرهم وفقرهم وجوعهم بما يقدرون عليه واحترام حرية التنقل، والذهاب بدلاً من ذلك إلى الانتفاضة على الطبقة السياسية التي مصّت حتى الدماء التي في عروقهم والطابة في مرماهم وكلّ ما يأملوه أن لا تقفل عليهم الطرق وأبواب الرزق والعمل. وانّ الآتي من الزمن الأسود والأسوأ كفيل بأن يشهد انفجاراً شعبياً عفوياً ضدّ كلّ من فسد وسرق وأفقر وجوّع هذا الشعب من دون الحاجة إلى دعوة أو برنامج وأمثلة التاريخ والشعوب الثائرة كثيرة. وأنّ التلذذ بلحس المبرد ليس هو الحلّ بل هو المقتل…