دلالات الردّ الصيني… وأسباب القلق الأميركي من اتجاه لبنان لقبول العروض الصينيّة
} حسن حردان
من النادر أن نعثر سابقاً على قيام سفارة الصين الشعبية في لبنان بالردّ على مواقف لمسؤولين أميركيين متعلقة بلبنان.. فالصين طالما كانت تنأى بنفسها عن الدخول في سجال سياسي له علاقة بلبنان.. وكانت تُركّز دائماً ولا زالت على بناء علاقات اقتصاديّة وتجاريّة وثقافيّة بين الصين ولبنان وهي حرصت على تنظيم سلسلة زيارات لأحزاب وقوى سياسيّة من فريقي ٨ و١٤ آذار إلى الصين، وكذلك فاعليات اقتصاديّة وثقافيّة وأكاديميّة..
لقد جاء بيان السفارة الصينيّة، الذي صدر قبل أيام، رداً على تصريحات مساعد وزير الخارجية الأميركية ديفيد شينكر، ليعكس توجّهاً جديداً في السياسة الصينيّة يقضي بعدم السماح لأميركا بتضليل الرأي العام اللبناني عبر محاولة تشويه سياسة الصين والتأثير سياسياً على الواقع اللبناني.. بشأن ما يجري من احتدام للصراع في لبنان حول الخيارات الاقتصادية والمالية التي عليه أن يأخذها لحل أزماته.. حيث عمد شينكر إلى ممارسة التحّريض الخبيث ضد بكين عبر اتهامها بصفات لا تمت بصلة إلى طبيعة سياساتها الخارجيّة في لبنان وعموم المنطقة والعالم.. والقول بأنها تسعى من خلال تقديم المساعدات الماليّة إلى نصب فخاخ للدول.. وذلك في سياق السعي إلى تحّريض اللبنانيّين على رفض الدعوات المتزّايدة للتوجّه شرقاً صوّب الصين وعدم قبول عروض المساعدات والمشاريع الاقتصاديّة التي أبدت الاستعداد لتنفيذها في لبنان..
فالصين، كما برهنت التجّربة، تعتمد سياسات خارجيّة معاكسة تماماً للسياسات الأميركيّة الغربيّة:
أولاً، تقيم الصين علاقاتها الخارجية على قاعدة تعزيز السلم والاستقرار في العالم، والحرص على تطبيق المواثيق والقوانين الدوليّة، القاضية باحترام سيادة واستقلال الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخليّة.. في حين تقيم الولايات المتحدة علاقاتها الخارجيّة بتعارض صارخ مع القوانين والمواثيق الدوليّة، حيث تعمل على فرض قوانينها وقراراتها على الدول للهيّمنة عليها، وتقوم بفرض الحصار الاقتصادي والمالي على الدول التي ترفض هذه الهيّمنة، وتطالب باحترام القانون الدولي..
ثانياً، تبنّي الصين علاقاتها الاقتصاديّة والتجاريّة مع دول العالم كافة على أساس تبادل الخبرات والمنافع من دون أيّ شروط سياسيّة.. وهذا النموذج من العلاقات لاقى نجاحاً في أفريقيا وآسيا، لأنّ الشركات الصينيّة التي استثمرت في هذه الدول، نفَّذت مشاريع حققت التنمية وحسّنت الخدمات العامة.. على عكس النموّذج الأميركي الغربي الذي اعتّمدتُ شركاته ويقوم على استغلال ثروات الدول من دون المساهمة بأيّ أنّشطة تنمويّة تُخرج البلاد من حالة التخلف والفقر..
ثالثاً، تمتنع الصين عن التدخل في شؤون وقرارات وسياسات الدول التي تستثمر فيها، وتعتبر ذلك شأناً داخلياً لا علاقة لها به.. في حين تعمد الولايات المتحدة وحلفاؤها في الغرب إلى التدخل في الشؤون الداخليّة للدول.. وتقوم بحياكة المؤامرات وتنفيذ انقلابات تطيح بالأنظمة والحكام الذين ينتهجون سياسات مستقلة غير تابعة للغرب..
انطلاقاً من ذلك فإنّ واشنطن شعرت بقلق شديد من اتجاه لبنان نحو قبول العروض الصينية لتنفيذ مشاريع اقتصادية وخدمية، لأنّ ذلك إذا حصل سوف يؤدّي ويكشف:
1 ـ إنّ هناك فرقاً شاسعاً بين طبيعة العلاقات مع الصين، التي تفيد البلدين وتنتشل لبنان من أزماته من دون أن ترتب عليه أيّ شروط سياسيّة، وبين طبيعة العلاقات القائمة بين لبنان وأميركا وبقية الدول الغربية والتي تقوم على فرض الوصاية على لبنان والتدخل في شؤونه وعدم حصول لبنان على أي منافع منها.. والدليل على ذلك أن أميركا تفرض حصاراً اقتصادياً مالياً على لبنان وتشترط رفعه خضوع لبنان للإملاءات الأميركيًة الإسرائيليًة.. وهي تمتنع أصلاً عن تقديم أيّ قروض غير مشروطة، ولا تقدم أيّ مشاريع لحل مشكلات لبنان المزمنة، بل تسارع إلى وضع العراقيل أمام لجوء لبنان لأي دولة تعرض عليه المساعدة لإقامة مثل هذه المشاريع لحل أزماته…
2 ـ انّ لبنان قد أضاع عقوداً من الزمن للنهوض باقتصاده وإعادة تأهيل بنيته الخدميّة بأقلّ التكاليف، فيما لو سلك خيار تنويع علاقاته الاقتصاديّة مع دول العالم كافة.. لكنّ الطبقة السياسيّة التي حكمت لبنان بعد الطائف ربطت لبنان بالتبعيّة الاقتصاديّة للغرب وانتهجتّ سياسات ريعيّة نيو ليبرالية تناسب الغرب، أشاعت الفساد، فأباحت المال العام للنهب من خلال عقد الصفقات بالتّراضي، وكانت النتّيجة تنفيذ مشاريع بأسعار مكّلفة، وتبيّن في ما بعد أنها غير صالحة، مثل معامل الكهرباء… فيما رتبت هذا السياسة على لبنان ديوناً كبيرة تحت عنوان إعادة إعمار ما دمرته الحرب الأهليّة.. فلا أُقيمت شبكة سكك حديد، ولا تمّ شق نفق بيروت شتوره، ولا أُنشئّت معامل انتاح الكهرباء وفرز النفايات، ولا أُقِيمت السّدود للنهوض بالزراعة.. وكل هذه المشاريع أساسيّة للنهوض بالزراعة والصّناعة والسّياحة.. وهي القطاعات المنّتجة التي تحقق القِيمة المضافة وتؤمن فرص العمل.
3 ـ إنّ لبنان سيخرج من أزماته ويتخلّص من الارتهان للولايات المتحدة وابتزازها، ويلّمس لأول مرة الفوائد الاقتصاديّة الكبيرة من تنويع خياراته، ويُحققُ حرية قراره الاقتصادي ويُدرك مدى أهمية ذلك في اتخاذ القرارات التي تنسجم مع مصلحتهِ، ورفض كل ما يتعارض مع هذه المصلحة.. الأمر الذي يمكّنهُ من استغلال ثرواته النفطيّة والغازيّة كاملة، ورفض التّنازل عن أيّ جزء منها، والتمسك بكامل حقوقه في مياهه الإقليميّة الخالصة، وعدم القبول بأيّ مساومة عليها.
4 ـ إنّ لبنان سيزداد قوّةً ومنعةً.. فمعادلة «الجيش والشعب والمقاومة» سوف تتّعزز أيضاً بخروج لبنان من الأزمة الاقتصاديّة والماليّة والاجتماعيّة وتحرره من وصاية الولايات المتحدة التي تعمل على استغلال الأزمة الماليّة والاقتصاديّة لتحقيق مآربها السياسيّة..
لهذا كله فإنّ واشنطن باتت قلقة جداً من اتجاه لبنان نحو الشرق لحلّ أزماته لأنها ستؤدّي إلى فقدان أميركا أخر ورقة تمسّك بها للضغط على لبنان بهدف فرض شروطها عليه، وهي كلها شروط «إسرائيليّة»…