لبنان اليائس يتعلّق بقشة الدجل المعدّ مسبقاً
غدير حمية
العقل والتعقل هما أهمّ مقومات النهوض بالمجتمعات، وهما أول واجب على الشعوب التي ترتقي بهما نحو الازدهار والتقدم والعلا، خصوصاً إذا ما استندا إلى العلم والمعرفة والتكاتف المجتمعي والتربوي والسياسي والإعلامي. في لبنان غاب العقل والمنطق ليحلّ الدجل، حتى أن القانون غاب أيضاً أمام ثلة من المتنبئين الذين ينشدون ربحاً مادياً مقابل مجموعة من الصور والرؤى التي تلفت انتباه العامة.
الطامة الكبرى أن معرفة أحداث المستقبل كانت سابقاً تشدّ اللبنانيين على سبيل التسلية، إذ إننا كنا نسمع عن المنجمين والعرافين، وكان الخبر لافتاً ومثيراً للانتباه لدرجة أنّ البعض وبدافع الحشرية، يحاول اللجوء إليهم لسؤالهم عما ستؤول إليه أحواله. في حين أنها أصبحت اليوم تغريهم بقناعة غريبة، وتحظى بالإجماع والانتشار، بعدما بات المتنبئون يتحكمون بمصائر الناس، إلى درجة أصبحوا ينتظرونهم بشغف ويبنون مسارات حياتهم على أساس رواياتهم. كما أن هذه التنبؤات انتقلت من كونها شخصية تطال أفراداً، لتصبح جماعيّة على مستوى مساحة الوطن واختلاف الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
أخطر ما في الأمر أن المتبنّي الأول لظاهرة التنجيم هو الإعلام الذي يفترض أن يكون سلطة رابعة في بلد يعاني فساداً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. في حين أن الفساد لم يعد يقتصر فقط على الدولة والهدر والمحاصصة والسرقات التي تشهدها مؤسساتها، إنما تجذر في عقول المواطنين، بسعي حثيث من سلطتهم الرابعة والذي يقف وراءه إفلاس إعلامي لم يعُد يصبو سوى إلى تحقيق نسب مشاهدات عالية واستقطاب مزيد من الإعلانات والتالي مزيد من الأرباح المادية. الأمر الذي أدّى إلى انتشار ما يسمّى الغباء الجماعي، فبات اللبنانيون يتكئون على فرشهم يتسمّرون أمام شاشاتهم وينتظرون المنجم الذي تتنافس المحطات اللبنانية على استضافته، ليحدّدوا بالتالي شكل أوضاعهم النفسية، فإما ينامون على حرير مطمئنين، وإما يتوترون ويصابون بالهلع. الأمر يتوقف على الأحداث المستقبلية التي يحددها المتنبئ ذو القدرات الخارقة في سلسلة توقعاته.
يُقال “كذب المنجمون ولو صدقوا”، ما يعني أنّ احتمالية الصدق في أقوالهم موجودة. وعلى هذا الأساس باتت التنبّؤات أمراً واقعاً وأصبحت مهنة يمارسها من يدعون أنهم أهل اختصاص. فيعتمدون أسلوباً متقناً يتمثل برمي مئات التوقعات دفعة واحدة، بحيث إنّ نسبة إصابة الهدف في كثير من الأحيان تصبح حتميّة. واللافت أن أصحاب الخيال الصاخب والوحي الإلهي يعطون توقعات عامة، تستند في معظمها إلى أبسط قواعد التحليل السياسي والاقتصادي الذي يستند إلى مراقبة مسار الأحداث، لا سيما أننا في بلد مليء بالأحداث المشوّقة والمتسارعة. وما يثير الانتباه أن تنبؤات المنجمين الذي يحملون الأوراق المطبوعة، مقسمة بين ما هو محلي وعربي ودولي، وبين ما هو فني وسياسي واقتصادي. لا تفوتهم أي فائتة، هم محيطون بكل الملفات. يُمطروننا بوابل من التوقعات على قاعدة «إذا ضبطت ضبطت»، وإذا لا «أكيد ما بيظبط كل شي، نحن بشر بالنهاية». وأي بشر؟!
وأكثر من ذلك، أتعلمون كيف يتمّ الاستيلاء على الأرض والممتلكات؟؟ كلما كانت أسلحة الإقناع والتأثير شاملة كان الأمر أقل صعوبة.. كلما تمّ تحريف أنظار الشعوب عن قضاياهم الأساسية، كان الأمر أقل صعوبة.. كلما تمّ استعمار إعلامهم ومنصاتهم، كان الأمر أقل صعوبة.. لا يتحرك المنجمون بدافع مادي وبغرض الشهرة فقط، إنما بأجندات محكمة تعدّها دول للسيطرة على دول أخرى، مستعينة باليأس. كيف ذلك؟ في لبنان مثلاً تحاول بعض الدول من خلال أزلامها في الداخل إثارة النعرات الطائفية التي تؤدي إلى الحروب، وتسعى إلى تجويع اللبنانيين وإفقارهم، وتكرّس البطالة بين صفوف شبابهم، وتدمر مؤسساتهم، وتستميت لتأجيج الخلافات السياسية، وتحرض على السرقات والهدر. بعد كل ذلك ترسل إلى هذا البلد الغارق حتّى أذنيه في المشاكل مَن يلقنه المستقبل. وطبعاً ليس بجديد القول إن منسوب الخرافة يرتفع في المجتمعات اليائسة، وفقدان الأمل يدفع الناس إلى التعلق بالدجل. وهكذا كلما انتشر الغباء أدخلت الشعوب في حالة غيبوبة، وكانت الهيمنة أبسط.