قصة قصيرة كولونيل المانيكانات البلاستيكية
} علي السباعي
نحن في شهر رمضان، بداية الأيام العشرة الأخيرة منه، جرت عادة النسوة على الخروج للتبضع بعد تناول طعام الإفطار، أراهنّ قادمات من أقصى المدينة يسعين، سومريات جميلات يخرجن إلى الأسواق تحت وهج النيونات الساطعة في هذا المساء الربيعي، أيام غروب شهر أيار، نساء كثيرات؛ أمهات مرتديات ملابسهن الوقورة بألوانها البسيطة، يسرن فوق أرض السواد بوقار زاه براق يتمايلن جذلات، سعيدات، ضاحكات، غامزات، لامزات، ومتنادسات تحت وميض مصابيح إنارة الشوارع، تحف بهن بناتهن الناهدات، العاشقات، الكواعب اللواتي يرفلن في الحرير الأخضر الزاهي للغاية، بعضهن وراء أمهاتن يبدين كبقرات سمان يتمتّعن بصحّة جيّدة، يكتفين بتأمّل المحلات من حولهن بعيون غبية، والعذراوات منهنّ يتطاير شعر رؤوسهنّ ذي الألون: النحاسي، والكستنائي، والتوتي، وبلون الشوكولاتة، متمايلاً مع نسمات الربيع الحلوة التي تهبّ من نهر الفرات القريب، والبنات اللائي على أبواب الزواج يبدين مثل حوريات البحر، ملابسهن بألوان بحرية منعشة تجعلهن يبدين فاتنات وهنّ يضعن مساحيق التجميل ذات الألوان البرّاقة على وجوههن مع الكثير من الكحل الأسود فوق نهايات جفون أعينهن السومرية ذات الظلال البنية بلون الطين، يتربّع فوق جفونهن لون قزحي من الظلال هو مزيج من ظلال العيون الفضيّة وظلال العيون المعدنية تجعل عيونهن تبدو قاسية، كلهن يتجولن داخل الأسواق متبضعات ومتبخترات ومغناجات ومنتظرات فوارس الأحلام، يلبسن الملابس ذات الألوان الحادة، يمررن بمحلات بيع الملابس النسائية بفساتينهن ذوات اللون الأصفر الجريء، الأصفر المشرق عليهن يجعلهن جميلات، حيويات، فرحات، مشرقات، ونضرات، كالفراشات بحللهن الصفر الضيّقة والواسعة، يقفن ليحدقن بمعروضاتها، بنظرات غريبة منتزعة من أعماقهن التي لا يمكن التعبير عنها أو سبر أغوارها، وأخريات ألوان ثيابهن ذات تكثيف لوني عال، وقسم منهنّ تجد ألوان ما يسترهن باهتاً، ضوضاؤهن وضوضاء ألوان ملابسهن تشعّ طاقات غريبة كفيلة بأن تقيم ثورة، ثورة ناعمة تفتّن شبّان مدينة سومر والقرى المجاورة القريبة منها، والذين حضروا هذه الثورة ليشاهدوا متحسرين أجسادهن الرجراجة الباذخة الحضور، يتبعوهن زرافات زرافات أنى اتجهن، نتيجة هذه الثورة الجميلة، يتغنون سطراً من بيت «أبوذيّة» غناه مطرب ريفي عراقي معروف من مدينة الثورة ببغداد (حسين سعيدة): (إلك شمس بوسط روحي ولك ظل)، متعدّدة ومثيرة ومرغبة حركات فتيات سومر الجميلات المغريات بشفاههن الحمر الجذابة، وبصدورهن الناهدة، وأجسادهن الرشيقة بامتلاء مغر، قلبي مكسور يأنس بدفء حضورهن الساخن، لم أعش حياة عاطفية مستقرة في زمن نشأتي الأولى، مرارة ذلك ترافقني على امتداد سنوات عمري، هكذا أنا بلا رتوش، حياتي في خريفها الآن. أجدها موجعة، نازفة كجرح تتسرّب منه الدماء ولا يمكنني إيقافها، أجولُ كلّ صباحٍ ومساءٍ بالضياع، عرفت الخيبة وعرفتني باكراً، كنت طوال حياتي خائباً، وضائعاً، وحتى هذا اليوم الذي عبر فيه عمري صوب مغرب حياتي ما بعد الخمسين عاماً، لا نور في آخر نفق العمر، لا حبيبة قبل غروب العمر، أتنقل من خيبة إلى ضياع، ومن ضياع إلى خيبة، لم أكن مجنوناً حتى أؤمن بما قرأته في سني شبابي لنيكوس كازانتزاكيس: «بقليل من الجنون نغير العالم»، سومر مدينتي في أرض الخراب، مدينتي التي أحبها، وأحبُ درابينها، وأزقتها، وشوارعها، وبيوتها، وترابها، وناسها، ونخيلها، ونصف جوامعها؛ جامع فالح باشا السعدون الكبير، وجامع معروف آغا، وجامع فالح باشا الصغير، تؤذن الآن لصلاة العشاء، أما جوامعها الباقية فقد انقطع عنها التيار الكهربائي ضمن جدول القطع المبرمج، جامع الشيخ عباس، وجامع الشيخ حسن، وجامع الست لندا، وجامع فليح المدو، أنهض من خراب وأنتهي في خراب آخر جديد، بضمير متعب أثقله ألم الحب وخيانة الحبيبة، الحبيبة التي أشتاق لعينيها الخضراوين كثيراً، لضحكتها الشمس التي تشرق على قلبي توقظه من غفلته، أستيقظ من خيبة الذات وانطفئ في خيبة المكان حيث أجد نفسي بعيداً عنها في قلب ظلمتي، الدرب المؤدي لحبيبتي نفسه، وكل مرة أضيع إليها، وتردّني الناس إلى نفسي، إلى صوابي، يعودون بي من حيث ذهبت إليها، يملؤني الحزن والألم، ألم ينته بي أن أعيش خيبة البحث عن خطيبتي التي هجرتني في هذا العالم الغريب عني بعد إصابتي بحرب الثماني سنوات بجرح غائر في رجولتي، يا إلهي! كيف أبدل جسدي المعطوب؟ وحده التجوال بحثاً عن وجهها الحي بين وجوه من في شوارع المدينة، أبحث برغبة تنبع من القلب، من قلبي الشغوف بحبها، قلبي اللامتناهي بحبها، أفتش في سوق المدينة عن وجهها، وأسأل وجوه الناس عنها، أرى رجلاً مثلي عبر صوب مغرب حياته التي نافت على الخمسين، سحنته مثل سحنة أي عراقي متعب، يرتدي بزة عسكرية خضراء اللون، حليق الشعر واللحية، بشارب أسود كثيف جميل وخطه الشيب كشارب علي السباعي، يعتمّر بيرية عسكرية خضراء اللون، تتوسّطها مظلة بلون النحاس يحتضنها بعنفوان جناحي نسر نحاسي اللون، ينتعل بسطالاً رومانياً أسود اللون يلمع بشكل غريب، يتمنطق بنطاق عريض بلون أوراق شجرة الزيتون يتوسطه نسر قوي، وتربّعت على كتفيه العريضتين رتبة عقيد ركن مظلي، يعلق على صدره من الجهة اليسرى فوق القلب أوسمة الشجاعة من النوع العسكري ومن الدرجة الأولى، تذكرت أوّل احتكاكٍ فعليّ بين الجيش العراقي والشعب العراقيّ كان عام ألف وتسعمئة وثلاثة وثلاثين ميلادية، بمذبحة سميل ضد الآشوريين العراقيين بإشراف مباشر من الفريق بكر صدقي، يسير قبالتي في السوق بهيبة العسكري المنتصر، هذا الرجل الخمسيني أفقدني سلامي الداخلي، كسرني، استغربت، نحن في فترة السلم، وكل حروبنا حلّت أوزارها منذ زمن بعيد جداً، وجدت نفسي الآن بعيداً عن حبيبتي وظلمتي، قريباً منه تحت أضواء محلات أسواق الفنان حسين نعمة التي تحتضن كوناً من الأجساد، يتجول بين المتاجر الصغيرة لبيع ملابس النساء، يمر قربي الكولونيل ببدلته الخضراء، كان اللون الأخضر المفضّل عند نابليون، وارتبط هذا اللون بالإمبراطور الرومانيّ نيرون، وأصبح لون الإسلام، وكان الفيلسوف الألمانيّ غوته يعتبره لون الطبقة المتوسّطة، وأصبح الأخضر هذه الأيّام رمزاً للقضايا البيئية ومهمّة إنقاذ الأرض، يمر العقيد متبختراً بعصاه أمام مانيكانات من البلاستيك البرّاق الأملس النظيف، يتفحص بنظرات حادة دمى عرض الملابس الكبيرة والصغيرة بطريقته العسكرية التي جبل عليها، تلك هي نظراته، لغته التي يتحاور بها مع المانيكانات الطويلة والباردة والبارزة التضاريس، نظرات صامتة، مسكونة بالشجاعة والحزن، سواد عينيه عميق، صموت، ومتسائل، فيه عمق أسود شاسع وفسيح لا نهاية له، يحدق على كتيبة الدمى المنتصبة أمامه كالجند تهذبها الألوان الحية والبهيجة، متكدّسة ومتراصّة بجانب بعضها بعضاً، تمارس بقوة وجودها الزاهي والجميل على مشاعر من يراقبها، لونت المانيكانات بالأصفر الكئيب الفاتح اللون وبقعت بضربات لونيّة حمر معتمة متناغمة ومنسجمة بالحجم على مساحات وجوهها لتكون متنفّساً لهذه المحلات المزدحمة، كأنها تطلّ علينا من سطح القمر، غزارة من الألوان الهادئة وأشكالها الغريبة المتشابهة التي لم تأت بالصدفة، وقف مندهشاً، مصدوماً بيقين غريب، أمام مانيكانة لونت بالأبيض واتخذت هيئة شابة ساهمة حالمة بحزن شفيف وضع على وجهها البارد الصموت مكياجاً مجنوناً بالألوان النابضة ببهجة الحياة وروعتها، ألبسوها بدلة زفاف بيضاء خلابة ذات صدر مكشوف يفضح تفتح التفاح تحت بدلة العرس، كأنها إيناناً بصدرها العاري كالينبوع، عروس مثل نبع الماء العذب، وهو ظمىء لماء ينبوعها ذلك ما شفت به لمعة روحه في نظراته وما أوحت به بساطة قلبه المتيم بحركاته قليلة الصبر، ما به من حب جعله قليل الصبر، وأنا مثله أكون قليل الصبر لما أحمله من حب، تذكرنا بعالم شرقي مأخود من ألف ليلة وليلة، راح يعاتبها بشدة لتأخرها عن موعد الزفاف، عاتبها بمودة المحب لحبيبه، وهي واقفة خرساء بلهاء جامدة ببلادة كبيرة، ثغرها ذو الشفتين الحمراوين الصغيرتين الرفيعتين يفتر عن ابتسامة بلاستيكية باردة، باردة وبعيدة ونائية، تجمهر المتبضعون والمتبضعات وأصحاب المتاجر وأصحاب صلات التسوّق وأصحاب دكاكين السوق وأصحاب البسطات والبنات الجميلات الناهدات والصبايا الطافحات إغراءً وإغواءً وشهوةً والفتيات المتغنجات وأمهاتهن السمينات بعباءآتهن السود يتفرجن على خروج صاحِبُ الدُّكَّانِ الذي راح يكيل السباب والشتائم اللاذعة للرجل لكي يترك دمية عرض ملابس العروس حتى لا تتسخ بدلة العرس الغالية الثمن وتتلف، لم يستجب العسكري برتبة العقيد ركن مظلي لنداءات صاحب الدكان، دفعه الشاب اليافع بعنف لكي يغادر من أمام متجره، الضابط رابط الجأش والقدم، واقف بهيئة المستعد للمنازلة، عاد يحتضن المانيكان البلاستيكي بزي العروسة بحنان هائل، أخذت الحضور الدهشة، وأخذت النسوة والصبايا والفتيات يبتسمن وهن ينظرن باستغراب ممزوج بالألم والحسرة، والنساء البدينات تغشين بعباءاتهن ضاحكات، صارخات، متغامزات، ومتنادسات، والفتيات الصغيرات بعمر الورد وضعن مناديلهن الورقية يغطين شفاههن وهن يخفين شغفهن المفضوح فوق شفاهن المبتسمة المثيرة المستغربة، عندما صبّ الكولونيل جنونه عليها، وقبلها بلهفة هائلة، قبل يباب شفتيها البلاستيكي، ضمّ وجهها بيديه الرقيقتين السمراوين، مد شفتيه المكتنزتين وأمتص شفتيها البلاستيكيتين برقة، لم تمد شفتيها الرافيعتين، قبلها قبلة طويلة ورقيقة وعميقة ودافئة، كان صوت تقبيله لها يشبه شهرزاد تلك المقطوعة الموسيقية لريمسكي كورساكوف، ذكرتني قبلته للمانيكانة بالمشهد العاطفي بين «مس بيل» و»ليجمان» الذي ظهر في فيلم (المسألة الكبرى) الذي أخرجه الفنان «محمد شكري جميل»، تقول فيه «مس بيل» لـ»ليجمان»: أنت مستحيل. . . ولا أدري لماذا أحبك»… انقطع التيار الكهربائي ضمن برنامج القطع المجدول، سكتت أصوات المصلين وأمامهم وهم يؤدون صلاة التراويح في الجوامع الثلاثة، والليل الربيعي بهي رقيق يلفنا وهذه الشوارع، والهلال الكسول يطالع ما يجري من وراء سمائه الزرقاء المعتمة في هذا الجو الربيعي الحزين بسبب جائحة كورونا، فتح الشبّان المتجمهرون مصابيح هواتفهم النقالة، وبضوء وميض مصابيح الهواتف النقّالة شغل أصحاب صالات التسوّق والمتاجر الكبيرة والصغيرة مولداتهم الكهربائية، أضاءت عيون الناس كالشموع، وميض فضي ساطع غمر المكان، عادت الأضواء خجلة داخل ميدان السوق، كان العقيد الركن مظلي مثل نقطة مضيئة في قلب عتمة أسواق الفنان حسين نعمة، ضوء عينيه السومريتين يلف وجه الدمية البلاستيكية بضياء دافئ بحنين جارف، فكّ اشتباك ذراعيه من خصرها بحنان، وانسحب بلطف قل نظيره، ثم غادرها يائساً، حزيناً، ومنكسراً، الشبّان يلتقطون صوراً معي بهواتفهم النقالة، أشاهد نفسي في مرآة المتجر، وأنا أنسحب بكامل قيافتي العسكرية من أمام دكان بيع وتأجير بدلات الأعراس، رحت أتذكر ذلك اليوم المشؤوم في حرب الثماني سنوات حين أصبت بشظية في خصيتي.