هل يتحقّق الانفراج الاقتصادي المنشود؟
} د. فادي علي قانصو*
مع بداية العام 2020، دخل الاقتصاد اللبناني العليل، فعلياً، غرفة الإنعاش عقب إصابته بداء الركود التضخّمي، وهي حالة مزمنة يُصاب فيها الاقتصاد بانكماشٍ حادّ في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (أيّ نسب نمو سلبيّة) بالترافق مع ارتفاع ملحوظ في نسب تضخم أسعار الاستهلاك، مما يؤدّي إلى تعميق الأزمة الاقتصادية، لا سيّما لناحية تداعياته السلبية على معدّلات البطالة في ظلّ توجّه المؤسسات في الإجمال إلى تسريح عمّالها بُغية تقليص النفقات التشغيلية لديها جرّاء ارتفاع تكاليف الإنتاج، ناهيك عن انعكاساته الثقيلة على القدرة الشرائية للمواطنين وخاصّة ذوي الدخل المحدود وحتى المتوسّط. عليه، وفي خضمّ هذا الوباء الانكماشي الصافي الذي أصاب معظم قطاعات النشاط الاقتصادي في لبنان، تبادَر إلى أذهان المحلّلين والمراقبين الكثير من التساؤلات حول التوقّعات الاقتصادية لما قد تؤول إليه المرحلة المقبلة من نمو اقتصادي ونسب تضخم في البلاد في ظلّ هذه الأجواء الشائكة محلياً وإقليمياً وحتى عالمياً.
بدايةً، لا شكّ بأنّ الاختلالات البنيوية القائمة في لبنان، لا سيّما على صعيد القطاعين الخارجي والعام، عنصرا الهشاشة الأبرز في الاقتصاد اللبناني بعجزهما المزدوج، قد تفاقمت حدّة تردّيها خلال السنوات الأخيرة. إلا أنّ المخارج ما زالت متاحة نسبياً (وإنْ تضاءلت الفرص) إذا تمّ اتخاذ خيارات قاسية وتدابير جذرية وفي حال أُطلِقت عجلة الإصلاحات الهيكلية بشكل ملائم وبأسرع وقت ممكن وبدون أيّ تلكّؤ أو مماطلة، وإلا فلا مفرّ من الانهيار الاقتصادي المرحلي الشامل. غير أنه ومع إقرار برنامج الإصلاح الحكومي الطموح في نهاية شهر نيسان المنصرم، يمكن القول بأنه أصبح لدينا اليوم على الأقلّ رؤية لخطة اقتصادية شاملة للمرّة الأولى في تاريخ لبنان (وإنْ تحمل في طيّاتها بعض الثغرات والتحفّظات لا سيّما على صعيد عمليّة توزيع الخسائر المالية)، وهي تتضمّن توقّعات اقتصادية على كافّة الأصعدة للسنوات الخمس المقبلة، تواكبها إجراءات موازية تهدف بشكل أساسي إلى تعزيز النمو الاقتصادي وتحفيز إنتاجية الاقتصاد وتنافسيته، وخفض نسب المديونية في القطاع العام، إضافةً إلى الشقّ الاجتماعي وتطوير شبكات الحماية الاجتماعية لحماية الطبقات الأكثر فقراً.
في التفاصيل، يرتكز برنامج الحكومة على عدد من الأهداف المركزية والتي تتمحور بشكل أساسي حول تعديل مرتقب في سعر الصرف الرسمي لليرة اللبنانية بدءاً بـ3,500 ليرة للدولار ووصولاً إلى 4,300 ليرة للدولار مع نهاية العام 2024، لتحسين القدرة التنافسية وتقليص الضغوط على ميزان المدفوعات وعلى العجز التجاري عبر تعزيز الصادرات وتقليص الواردات وفق الخطة. من المهمّ هنا تحفيز السلع الموجّهة نحو التصدير والسلع البديلة للاستيراد عبر تشجيع الإنتاج المحلي من خلال رفعٍ للرسوم الجمركية لحماية المنتجات المحلية وتـأمين حوافز ضريبية للمنتجين المحليين. هذا ويطرح برنامج الحكومة استراتيجية شاملة لإعادة هيكلة الديون وإرساء سيناريو هبوط آمن على صعيد المالية العامة عن طريق إجراءات عديدة على صعيد تعزيز الإيرادات العامّة من خلال مكافحة التهرّب الضريبي وتحسين الامتثال الضريبي (تتضمّن زيادة في الضرائب في المرحلة الثانية تطال أرباح الشركات ورأس المال ودخل الفوائد على الودائع وأصحاب الدخل المرتفع، وزيادة في الضريبة على القيمة المضافة للكماليات، إلخ)، بالإضافة إلى ترشيد الإنفاق العام (من خلال خفض النفقات غير الثابتة وفاتورة الأجور التي تشكل ما نسبته 40% من الإنفاق العام الإجمالي، عبر خفض تدريجي في عدد المتعاقدين وتجميد التوظيف وإعادة النظر في حزمة المنافع، إلخ)، وإصلاح قطاع الكهرباء (مع عجز وصلت قيمته إلى 1.5 مليار دولار في العام 2019)، وإصلاح النظام التقاعدي (لا سيما بالنسبة للقوات المسلّحة مع تخفيض في المعاشات التقاعدية من 4.7% من الناتج الإجمالي إلى 2.2% من الناتج الإجمالي)، وخفض خدمة الدين العام (التي استحوذت على ما نسبته 33% من الإنفاق الإجمالي في العام 2019). ما من شأن ذلك أن يساهم في خفض نسبة العجز المالي العام إلى الناتج المحلي الإجمالي من 11% اليوم إلى 1% في العام 2024، وبالتالي تخفيض نسبة الدين إلى الناتج من 176% في نهاية العام 2019 إلى 103% في العام 2024 بحسب توقّعات الخطة. كما ترتكز الخطة على وضع استراتيجية وطنية طموحة لمكافحة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة (تبقى العبرة في التنفيذ) وعلى توفير المساعدة المالية الدولية من صندوق النقد الدولي ومن دول مانحة بما لا يقلّ عن 10 مليارات دولار وبشروط مؤاتية (مع العلم أنّ حصة لبنان لدى صندوق النقد الدولي تبلغ 880 مليون دولار) لسدّ فجوة التمويل الخارجي وتطوير البنى التحتية لدعم النمو الاقتصادي.
عليه، وفي ظلّ هذا السيناريو المطروح، وإذا تجسّدت فعلياً الخطة الحكومية، من المتوقّع أن يخرج الاقتصاد اللبناني من نفق الركود في العام 2022، وفق البرنامج الحكومي، لتصل نسبة النمو الاقتصادي المتوقعة إلى حدود 3% في العام 2024، مع انخفاض تدريجي في نسبة تضخم الأسعار من 53% هذا العام إلى 6% في العام 2024. في الإطار ذاته، أشار البنك الدولي في آخر تقرير له إلى أنّ مأزق المالية العامة في لبنان (من عجوزات مالية ومديونية) يتشابه إلى حدّ كبير مع أزمة الديون التي اندلعت في اليونان، في حين أنّ أزمة العجوزات في القطاع الخارجي في لبنان لا سيّما وضعية الحساب الجاري (أيّ المؤشر الذي يقيس الفروقات بين الصادرات والواردات من بضائع وخدمات بالإضافة إلى الفروقات بين التحويلات والتدفقات المالية من وإلى الاقتصاد، مع استثناء الأموال المستثمرة بالأصول واستثمارات الأسواق المالية) تشبه إلى حدّ ما أزمة الحساب الجاري في آيسلندا. وبالتالي فإنّ فترة الركود الاقتصادي في اليونان امتدّت لحوالي 8 سنوات، في حين أنّ فترة الركود في آيسلندا امتدّت لما يقارب السنتين، علماً أنّ الأرجنتين احتاجت إلى 4 سنوات وقبرص إلى 3 سنوات للخروج من نفق الركود. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أنّ جذور الأزمة الاقتصادية في كلّ من فنزويلا ولبنان تتشابه إلى حدّ كبير، لا سيّما على صعيد تفاقم وتيرة الأزمات السياسية الداخلية في البلدين، إضافةً إلى افتقارهما إلى التنوّع الاقتصادي (الأول يعتمد بشكل تامّ على قطاع النفط والثاني يعتمد على قطاع الخدمات)، ناهيك عن لجوء كلا البلدين إلى الاستدانة المفرطة في ظلّ هدر مُحكم وفساد مزمن. ومن أجل تمويل العجز المالي العام لجأت فنزويلا إلى طبع الكثير من الأوراق المالية، لتنهار بذلك قيمة البوليفار مقابل الدولار، ممّا زاد من نسبة التضخم بشكل ملحوظ، ولتدخل فنزويلا على عامها الثامن من الركود التضخمي. وهو سيناريو شبيه إلى حدّ ما بما بدأ يحصل اليوم في لبنان وإنْ لا يزال الأخير في بداية الأزمة وأنّ الأرقام ما زالت قابلة للاحتواء إذا صدقت نوايا الإصلاح.
من هنا، فإن كلّ هذه التوقعات الاقتصادية التي أشرنا إليها تبقى رهن الاستقرار السياسي والأمني داخلياً وحتى إقليمياً. إذ أنّ الاقتصاد والسياسة توأمان لا ينفصلان، هما وجهان لعملة واحدة. من هذا المنطلق، وفي ظلّ الكباش السياسي والاقتصادي القائم اليوم، تبادر إلى أذهان البعض تساؤلات حول مدى تأثير الانتخابات الرئاسية المقبلة في الولايات المتحدة الأميركية على المنطقة بشكل عام وعلى لبنان بشكل خاص. وهل أنّ هزيمة دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني المقبل قد تحمل معها ارتياحاً إقليمياً أو حتى محلياً في ظلّ الحصار الاقتصادي القائم على إيران وسورية ولبنان، لا سيّما مع دخول قانون قيصر حيّز التنفيذ؟
بدايةً، لا شكّ بأنّ السؤال الأبرز الذي يُطرح اليوم في الكواليس هو هل أنّ حظوظ دونالد ترامب في الفوز بالانتخابات الرئاسية المقبلة تبدو فعلاً منعدمة في ظلّ فشله في مكافحة انتشار وباء كورونا وفي أعقاب أحداث العنف الناجمة مؤخراً عن مقتل «جورج فلويد» على يد الشرطة؟ في الواقع، إنّ وباء كورونا الذي هزّ دول العالم أجمع، تجاوز عدد المصابين به في الولايات المتحدة الأميركية عتبة المليونين، الأعلى عالمياً، ولكن بالقيم النسبيّة لم يشكّل عدد المصابين أكثر من 1% من إجمالي عدد السكان، مع نسبة وفيّات بحدود 5% من إجمالي عدد المصابين بالوباء. أما التحرّكات الشعبيّة التي اندلعت في عدد من الولايات احتجاجاً على طريقة القتل العنصرية لمواطن أميركي من أصول أفريقية، فقد هدأت وتيرتها بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة. وبالتالي، فإنّ نقمة المواطنين الأميركيين، لا سيّما ذوي الأصول الأفريقية، لن تكون لها تداعيات ثقيلة على نتائج التصويت لصالح ترامب، لا سيّما أنّ الأفارقة الأميركيين لم يجيّروا، أساساً، أكثر من 8% من مجمل أصواتهم لترامب في انتخابات العام 2016، وذلك في بلدٍ أكثر ما يعوّل عليه مواطنوه هو قدرة رئيسهم على جذب الرساميل إلى الداخل الأميركي وإتمام الصفقات الاستثمارية والتجارية بنجاح لدعم الاقتصاد الأميركي دون اللّجوء إلى شنّ حروب عسكريّة عشوائية ومكلفة، وهو ما وفّره لهم دونالد ترامب إلى حدّ كبير بعقليّة رجل الأعمال الرأسمالي «الكاريزماتي» والتي يفتقدها فعلياً منافسه، أيّ المرشح عن الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية جو بايدن. ولكن ما استجدّ في الأيام الأخيرة مع صدور مذكّرات مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، جون بولتون، والتي تستهدف استراتيجية ترامب وترسم صورة رئيس يفتقر للخبرة، فوق القانون، ويعمل على صنع قرارات مدفوعة بالرغبة في إدامة بقائه في السلطة، قد تقضي على حظوظه في الفوز في الانتخابات الرئاسية وتجعل طريقه نحو الانتخابات الرئاسية أشبه بالنزول في منحدر، لا سيّما في ظلّ تأثيرها السلبي على الدعم الذي تقدّمه فئة معيّنة من الناخبين الجمهوريين للرئيس الحالي، وخاصة المتردّدين بشأن إعادة التصويت له. وهو ما ظهر جليّاً خلال الأسبوع الماضي مع تقدّم بايدن بفارق كبير بلغ 14 نقطة أمام ترامب وفق آخر استطلاع رأي.
في المقابل، وفي حال فاز المرشح عن الحزب الديمقراطي جو بايدن، فإنّ الأخير على ما يبدو ليس بوارد التراجع عن قانون قيصر أقلّه في المدى القريب، مع التذكير بأنّ مجلس النواب الأميركي كان قد صادق على قانون قيصر بأغلبية ساحقة، في حين أنّ مجلس الشيوخ قد أقرّه بأغلبية 86 من أصل 100 عضو، ما يعني أنّ القانون يحظى بدعم غالبية أعضاء الحزبين الديمقراطي والجمهوري. أما لناحية رفع العقوبات عن إيران، فإنّ السياسة الأميركية في المنطقة يمكن أن تشهد بعض التغيّرات الانفراجية الطفيفة ولكن ليس في المدى المتوسط. في الواقع، ورغم أنّ المرشح بايدن يعتقد أنّ الاتفاق النووي كان يخدم مقصده في ما يتعلق بعرقلة مسارات طهران المحتملة إلى القنبلة النووية وأنّ موقف الولايات المتحدة أصبح أسوأ بعد انسحابها من الاتفاق، إلا أنّ بايدن يشارك ترامب في العديد من وجهات النظر حول السلوك الإقليمي لإيران والاقتناع بأنه لا ينبغي السماح لإيران أبداً بأن تصبح دولة مسلّحة نووياً. كما وإنّ الإدارة الجديدة لبايدن، في حال فوزه، لن تكون قادرة بهذه السهولة على عكس نتائج سياسات ترامب المتشدّدة، والتي غيّرت المشهد السياسي الإيراني بطرق تجعل الدبلوماسية أكثر صعوبة في المستقبل، خاصّةً أنّ إرث ترامب بسياساته الخارجية التي أثبتت فعاليتها وفق عدد كبير من الباحثين والمحلّلين السياسيين، من المرجّح أن يبقى رابضاً لفترة ليست بقصيرة بعد رحيله. من هنا، فإنّ الرهان على انفراج سياسي إقليمي قد يحمل معه رياح الانفراج الاقتصادي في لبنان لا يبدو واقعياً، أقلّه في المدى القريب إلى المتوسّط.
في الختام، لا شكّ بأنّ المخاطر التي نشهدها اليوم تمثّل بالفعل تهديدات جدّية، وأنّ لبنان مقبل على مرحلة صعبة سياسياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً، تتطلّب منّا أقصى درجات الوعي والحكمة، لا سيّما أنها قد تفرض علينا تغييرات جذريّة في أساليب حياتنا وأنماط عَيشنا السابقة، قد تبقى معالمها راسخة لسنين طويلة. غير أنّ لبنان الذي مرّ بعدّة حلقات من الصدمات الداخلية والخارجية (وإنْ كانت أخفّ وطأة)، نجح في مراحل سابقة في الخروج من أتون الأزمات على المدى البعيد. من هنا، فإنّ الرهان اليوم يبقى على تفعيل عجلة الإصلاحات الهيكلية الضرورية الكفيلة بتعزيز عامل الثقة بشكل عام، وهو ما يتطلّب تحسّناً ملموساً على صعيد المناخ الداخلي العام مع ما يمثّل من حجر أساس لاستعادة إنتاجية المؤسسات اللبنانية من جهة، كما يتطلّب انحساراً تدريجياً للعوامل الإقليمية المعاكسة ذات التداعيات السلبية على الساحة المحلية من جهة أخرى، كي يتحقّق الانفراج الاقتصادي المنشود. عليه، فإنّ لبنان اليوم بأمسّ الحاجة إلى سواعد من تبقّى له من شبابه، بكفاءاتهم وخبراتهم، شبابه الذين أينما حلّوا أبدعوا وفرضوا أنفسهم بكلّ جدارة، شبابه الذين رفعوا رايات العلم والثقافة والمهنيّة والمهارة عالياً في مختلف أصقاع العالم. ولكن هل سيتسنّى لشبابنا انتهاز فرصة المشاركة في ورشة نهوض لبنان من ركوده؟ أم ستبقى أدمغتهم سِلعاً جاهزة للتصدير بعد أن تُباع في مزادات المحاصصة العلنيّة؟ وإلى متى سيبقى لبنان، بشعبه، أسير هذا النظام الطائفي المترنّح الذي يحاول التقاط أنفاسه الأخيرة على حساب لقمة عيشنا؟ كلّها أسئلة مشروعة نطرحها اليوم بصوتنا العلماني الصادح وبنفوسنا التي فرضت حقيقتها على هذا الوجود، لنضعها برسم المعنيّين علّنا نلقى جواباً، وإلا فإنّ اللّسان قد يرتبك وتتشابك معه مخارج الألفاظ التي قد تفقد بدورها القدرة على ترتيب الأحرف الأخيرة من كلمة «انفراج» وتستبدلها بـكلمة «انفجار». هو انفجارٌ اقتصادي واجتماعي ومعيشي قد يُسقِط الهيكل، لا قدّر الله، فوق رؤوس الجميع.
*خبير اقتصادي وأستاذ جامعي