القتال الأميركيّ الأخير على الاستثمارات في الشرق الأوسط
} د. وفيق إبراهيم
يستهلك الأميركيّون حالياً آخر الأوراق الممكنة لاستعادة الاستثمارات في الشرق الأوسط. وهذا مشروع يتطلب سيطرة على إيران أو قطع شرايين اتصالاتها بسورية والعراق وبالتالي لبنان.
بذلك يستطيعون تنفيذ ثلاثة مشاريع دفعة واحدة تعيد تزخيم النفوذ الأميركي الإقليمي والدولي. وهي على التوالي إعادة إعمار سورية والعراق والسيطرة على غاز البحر الأبيض المتوسط ونفطه وأخيراً صفقة القرن التي تنهي القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي على قاعدة تشكيل حلف عربي – إسرائيلي يمنع تمدد النفوذين الروسي والصيني في المنطقة.
يبدو إذاً أن كل مشروع أميركي له هدف محدد فإعادة الإعمار لها هدفان: اقتصادي مفيد لإعادة تنشيط الاقتصاد الأميركي وسياسي استراتيجي يقطع علاقة إيران بسورية والعراق ولبنان.
هناك هدف بعيد وهو حرمان إيران من تمركز لها على البحر الأبيض المتوسط من جهة لبنان والبحر الأحمر من ناحية الساحل الغربي عند منطقة الحديدة اليمنيّة وشط العرب في العراق، فيصبح مضيق هرمز معدوم الفوائد في كل الاتجاهات.
ماذا عن صفقة القرن؟
هذه إحدى السياسات الأميركية الأكثر أهمية التي يحاول الرئيس الأميركي دونالد ترامب العمل لتطبيقها مستعملاً كامل إمكانات بلاده العسكرية والاقتصادية والجيوبولنيكية ولو تمكن من استخدام «النووي» لتطبيقه لما تأخر أبداً.
وهذا الجزء واضح الأبعاد، يريد تدمير المفاعيل السياسية للصمود اللبناني – السوري – العراقي – اليمني وبالتالي الإيراني، وإعادة تنصيب النفوذ الأميركي ولياً وحيداً متفرداً في منطقة الشرق، مع ما يعنيه من ارتباط بالشرق الأوسط والعالم الإسلامي، وهذا يستتبع فوراً طرداً للتسلل الصيني البطيء أصلاً إلى المنطقة.
أما النقطة الثالثة فكثيرة الأهمية للقطبية الأميركية لأن ما هو متعارف عليه، بأن وسائل القطبية هي القوة المتنوّعة، من الزعامة العسكرية والاستراتيجية والاقتصادية وصولاً إلى ضرورة الإمساك بأحد موارد الطاقة، فالأميركيون الأقوياء من نهاية الحرب العالمية الثانية في 1945 سيطروا على الدول المنتجة للبترول في جزيرة العرب، المنطقة الأكثر أهمية إنتاجاً واحتياطاً ولديها القدرة على الاستهلاك والكثير من التأثير على مسلمي العالم بسيطرتها على الحرمين الشريفين في مكة والمدينة المنورة.
كذلك فإن الاتحاد السوفيتي انطلق نحو القطبية في تلك المرحلة مستنداً إلى امتلاك بلاده الاحتياط الأكبر من الغاز والموقع الثالث في إنتاج البترول.
لذلك فإن الأميركيين حريصون على تقليص النفوذ الروسي في سورية ومنع إيران من بناء موقع لها على السواحل اللبنانية للبحر المتوسط.
والحد من تسلل السلع الصينية إلى الكيان المحتل والعراق وتدجين الطمع التركي الذاهب نحو حضور قويّ في سواحل بعض دول المتوسط في ليبيا والجزء التركي في قبرص والسواحل التركية الواسعة، مع جنوح لتواجد محدود في بحار الخليج والأحمر وقوي في البحر الأسود عبر الإمساك بمنافذه في البوسفور والدردنيل نحو بحري إيجة والمتوسط.
الملاحظ إذاً أن المشروع الأميركي الذي ابتدأ مع انهيار الاتحاد السوفياتي في 1990 تراجع بدوره في سورية مع نجاح دولتها المدعومة بتحالفات روسية وإيرانية مع حزب الله، ولم يحقق في العراق قطعاً لعلاقات بلاد الرافدين بكل من إيران وسورية. كما أنه لم يتمكن من ضبط حزب الله بدوره الداخلي اللبناني الصاعد حسب العيارات المتقلصة التي لا يريد الحزب تجاوزها حالياً ولا دوره الإقليمي المتصاعد استناداً إلى متطلبات مشروع المقاومة بمجابهة الأميركيين والإسرائيليين والإرهاب.
هذا المشروع سجل إذاً تقهقراً كبيراً في كل أنحاء المنطقة بشكل لم تتمكن دول الخليج من إعلان تحالفها مع الكيان الإسرائيلي، وهو تحالف موجود لكن صورته الاحتفالية التذكارية لا تزال محجوزة لاعتبارات القوة الكبيرة التي لا يزال يمسك بها المحور السوري – حزب الله والفلسطينيين بشكل ملحوظ.
هذا ما أنتج النسخة الأميركية الحالية لإعادة الإمساك بالمنطقة عبر تراجع الأسلوب العسكري إلى أسلوب الحرب الاقتصادية وقتل الخصم بالتجويع.
هنا عاد الجيوبولتيك لاستحضار قوته الاقتصادية في العالم بأسره، ملزماً الشركات والمصارف الأميركية والأوروبية والكندية والأسترالية والآسيوية بما يشمل الأرض بأسرها بمقاطعة سورية في مختلف جوانب الاقتصاد والحياة والتحويلات، وهذا يشمل على مستوى التطبيق العملي العراق ولبنان لأنهما بلدان حدوديان مجاوران لسورية ولهما معها علاقات تاريخية على مستوى الاقتصاد والاجتماع.
هذا هو التفسير لـ»قيصر» الذي يشكل بديلاً من المشروع الأميركي بنموذج 1990 المهزوم.
فهل ينجح قيصر الأميركي في تحقيق ما عجز عنه مشروع 1990؟
العلاقات الدولية تكشف عن رفض روسي – صيني لقيصر وشروطه وإعلان إيراني أنهم مستمرون في دعم سورية بكل حاجاتها ومن خلال المسالك البحرية والبرية، كما أن العراق كعادته بصمود الأحرار على استثناءات تجارية في علاقاته بسورية. كذلك لبنان فإنه ذاهب نحو التأكيد على الاستثناءات خاصة به في علاقاته ببعض النواحي الاقتصادية والكهربائية بسورية.
بالنتيجة يتضح أن هذا الدعم الدولي بالتقاطع مع جنوح سوري نحو دعم الإنتاج الداخلي كما فعلت إيران منذ 1980 وحتى اليوم.
وهي مرحلة حولت الحصار المستمر عليها حتى اليوم إلى فرصة لبناء قطاعات إنتاج شملت الزراعة والصناعة وإنتاج أجود أنواع السلاح والكهرباء والبوارج وأقمار اختراق الفضاء.
وسورية بدورها الصامدة منذ 2011 تجري على النسق نفسه لبناء إنتاج داخلي متفوّق. فهل يسقط قيصر؟! وهذا يعني انهيار المشروع الأميركي الجديد؟
المطلوب تعميق الحلف الروسي الصيني الإيراني الذي يحتاج إلى بلد صامد كسورية، وهذا يرسخ الحلف السوري العراقي الإيراني مع دولة صنعاء وحزب الله من جهة مشرعاً الطرقات لنظام قطبي جديد يقوم على الأميركي والروسي والصيني مع دور إقليمي كبير لإيران، يُقصي الأتراك والإسرائيليين عن أدوارهم المتصاعدة في الشرق الأوسط.