بيروت تحترق.. والجزائر في «خيخون» تنتقم!
مصطفى بدوي*
في هذه الحلقة يسافر بنا صديقنا الحكواتي «م» نحو بيروت وهي تتعرّض للحصار براً وجواً وبحراً ولا أحد في المدى سوى صمود أسطوري دام أكثر من شهرين متتابعين من دون أن يتماسا.. قصف جنونيّ ومقاومة بطولية تزهو بالشهادة في زمن رخو كالهواء الصلب.. صمتٌ عربي وملحمة فلسطينية مجنونة بالموت عشقاً في حرية كنعانية حمراء.. موت وموت وموت هناك.. وهلوسة كروية ههنا على مقربة من البوغاز.. عمارات تخبز الأبرياء هناك تحت قصف لا يرحم وهذيانات كروية يتابعها الغربان والجرذان في خيخون.. مفارقات محمومة سنتابعها. فاليكموها:
حزيران 1982
ونحن ننتظر مع المنتظرين مباراة الجزائر ألمانيا تناهى إلينا نحن المهووسين بفلسطين عبر الإعلام التلفزيوني خبر اجتياح شارون لبيروت. صار الأمر اذن جدياً بل أكثر جديّة مما توقّع الكثيرون. كان العنوان الأبرز في حملة هولاكو الجديدة تصفية المقاومة وقواعد منظمة التحرير في لبنان وسحقها بشكل نهائي والزج بالقضية في عداد النسيان او على الأقل تهجيرها نحو المنافي البعيدة. حبسنا أنفاسنا ونحن نتابع عبر الصور التي كان يبثها الإعلام جحافل التتار الجدد وهي تطارد فتية لا يحملون الا رشاشات «الـ آر بي جي» .. آثرنا متابعة ما يجري على قناة «البي بي سي» لأن الاعلام العربي كان مهووساً بمشاركة منتخبي الجزائر والكويت في مونديال إسبانيا.. تأكدنا أن كرة النور المشعة بيروت محاصرة وان الفتية الذين رأيناهم أحلامنا الرومانسية مستعدون للدفاع عن أحلامنا حتى الرمق الأخير.. قبلئذ، كنا قد تربينا على «الهدف» التي كان يصدرها إعلام جورج حبش و»الحرية» التي كانت تصدر عن إعلام نايف حواتمة لنبحر في أحلام ثورية قصية.. كنا نرى في الاختلاف الفلسطيني فصائليا تربية على ممارسة ديمقراطية مغيبة بل مغتالة في شرق المتوسط وكان كل مهووس بفلسطين منا ينتصر لطروحات فصيل دون ذاك. اكتوينا بنيران بيروت التي كانت تمزق اللحمين الفلسطيني واللبناني ونحن نرى رفاقنا هناك يتمترسون خلف جدران العمارات المنهارة وخلف الحصون المتعدّدة الاشكال والاحجام ليوقفوا تقدم النازيين الجدد وألسنة اللهب تلتهم العمارات من جراء القصف اللامحدود للفانتوم والطائرات المغيرة الأميركية الصنع. كانت حرارة حزيران حارقة وكانت بيروت تحترق وطلال سلمان يصرخ في «السفير»: بيروت تحترق ولن ترفع الرايات البيضاء! كانت الصرخة موجعة وشكلاً من أشكال التحدّي الثوري الذي رفعته القوى الوطنية اللبنانية التي قاتلت بشراسة من أجل شرق آخر: شرق حر وعادل .. شرق يناهض التمدد الامبريالي والعنجهية الصهيونية التي تعد واجهة عملية متقدمة لهذه الامبريالية العالمية.. كان رأس المقاومة مطلوباً غير أن معجزة فلسطينية لبنانية كانت الحاضن الأعظم لدحر هذا المطلب الصهيوني.. واصل شارون جنونه فيما واصلت المقاومة صمودها فكان الجحيم أطناناً من القنابل تلقى على بيروت.. قصفٌ بريٌ وآخر جوي وثالث بحري وما استطاع شارون التقدّم شبراً واحداً على الأرض.. كانت تقارير الصحافيين الغربيين تشير إلى احتمال «غيرنيكا» جديدة في بيروت بيد أن شراسة الفتية الذين هبوا للدفاع عنها كانت أسطورية.. وفي المقابل، في الجهة الأخرى من شرق المتوسط كان الإعلام الثوري الجزائري منشغلاً هذه المرة بمقابلة المانيا والجزائر.. هذه المقابلة المصيرية بحسب الوجدانين الرسمي والشعبي.. أغلب أبناء جيلي لم يكونوا مهتمّين بما يحدث لا في بيروت ولا في غواتيمالا لأنهم كرويّو الهوى.. هكذا بدأت الرهانات بين أقراني حول المنتصر.. تداخلت العدواة السياسية بالكرة تبعاً للضخّ الإعلامي المؤدلج، فانقسم الناس الى منتصر للأشقاء وآخر منتصر للآلة الالمانية. كانت المباراة يوم 16 حزيران، تابعها الجميع بترقب شديد.. تابعناها وأذهاننا مصوبة نحو هذه المفارقة العجائبية: فتية يقاتلون هناك في بيروت آلة جهنمية مدعومة بأحدث الصناعات الحربية فتكاً وضراوة من أجل زمن آخر وفكرة أخرى وإنسان آخر في مقابل فتية على مقربة من البوغاز يقاتلون آلة كروية المانية محشوّة بالهواء الخفيف. انتهى الشوط الأول بالتعادل 1.1 وأنفاس شعب المليون ونصف المليون مشدودة الى ما سيفعله «عصاد» و»بلومي» «وماجر» و»مرزقان».. في الشوط الثاني قصف فتية «محيي الدين خالف» مرمى الألماني «شوماخر» بهدف هزّ الحناجر كلها ليوحّد ما أفسدته السياسة في المغرب العربي حتى عاد مخيالنا المغاربي إلى أمجاد عقبة بن نافع وطارق بن زياد.. وإذا كانت للتاريخ مستملحاته فاذكر ان المذيع الجزائري ذكر مبعوث التلفزيون في خيخون بأن صلاة العصر قد حان موعدها في العاصمة الجزائرية إلا أن الرجل أمام هول الدهشة ردّ عليه بعصبية لا تُخفى: «مفيش صلاة عصر.. فيه بلومي وماجر وعصاد يقهرون ألمانيا». خرج الأشقاء الجزائريون عن بكرة شهدائهم في القرى النموذجية والمدن ليهتفوا «قسماً بالنازلات..» احتفالاً بهذا الفتح الرباني الذي لا سابقة له في تا ريخ العرب والأفارقة.. لم يكن للإعلام الجزائري ليتابع ما يحدث في بيروت لأن «خيخون» أحلى من أخبار حركات التحرّر ومتاعبها.. انهمك الجميع في تحليل ما جرى في المقابلة والخوض في قوة المنتخب الوطني وكيف قهر أبناء الشهداء أحفاد نيتشه وماركس وروزا لوكسمبورغ.. لذا كنا نحن المهووسين ببيروت نجد في الـ «بي بي سي» ملاذنا لمتابعة ما يجري في الجحيم الثوري.. كان القصف جنونياً وكانت المقاومة تقاتل بشراسة إغريقية.. وحدهم الفتية الضالعون في الكرز كانوا يرفعون راية التمرّد: لا… ووحدهم كانوا يشعلون المدى والأرصفة فراشات ودموعاً وشموعاً وأحصنة. وحدهم كانوا.. ووحدهم كبروا في الهزيع ملحمة وسحرا شذياً.. ووحده كان «فيليب حبيب» يذرع عواصم الشرق.. هذا الشرق المسجى في تابوت العجز والصمت والخذلان.. أكثر من شهرين وفتية الفاكهاني يذرعون الجحيم بمستحيلهم ودمائهم وملاحمهم المجنونة الأبعاد.. دفع اللبنانيون من لحمهم فاتورة ظمأى للحياة والكل منصرف الى مشاغله الصغيرة والقريبة والقليلة في هذا الشرق العنين. كان أبو عمار يعرف بعد كل هذا المطر الرصاصي أنه سيغادر بيروت إلى الأبد: بيروت الدم والحلم وجمهورية الفاكهاني التي رسمها على مقاسات الشعراء والأحلام.. وفي مشهد إغريقي مفعم بالتحدّي، مجلل بالأرز وبالزهور وصهيل الرصاص في الهواء الصلب، كانت قيادة المقاومة تقف وسط بيروت في آخر استعراض عسكري لها في لبنان.. خرج الفتية من دون أن يسلّموا أسلحتهم كما افترضت مشيئة النازيين الجدد وعنجهيتهم ..خرجوا مرفوعي الرأس امام آلة جهنمية لا تشبه في شيء تلك الآلة الهوائية التي واجهها احفاد العقيد لطفي وزيغود يوسف وكريم بلقاسم… أطلق فتية الفاكهاني وابلاً من الرصاص في سماء السفينة الإغريقية وبأصابعهم رفعوا شارات النصر الأسطوري الذي لا يحد ولا يلين.. ودّعوا بيروت على دموع الأمهات اللواتي كن يزغردن ما استطعن وينثرن الارز والدموع الحانيات على الخدود وهنّ يودعن فرساناً وزماناً مفتوحاً على البحر، على رحلة أخرى «ليتضح المصير» أو ليتضح المسير.. صحيح أنهم ودّعوا بيروت بيد أنهم لم يودّعوا أملاً في العراء.. ودّعوا بحراً طالما ألفوه الا أن البحر فيهم، بل هم البحر ثم البحر ثم البحر.. قاتلوا وحشاً الا أنهم آمنوا أنها جولة من جولاتهم التي لا تنتهي الا لتبدأ في جولة أخرى أو رحلة أخرى أو فكرة أخرى..
«يتبع»
*شاعر وباحث من المغرب.