هل يُجهض برّي «لعبة تفجير الشارع»؟
} د. وفيق إبراهيم
التعجيل في تفجير لبنان من مرحلة انهيار اقتصادي وسياسي خانق إلى مستوى صدامات شعبية مفتوحة على حروب داخلية، هي الخطة الحاليّة التي يعمل عليها المروّجون لقانون قيصر الأميركي الخارجون والداخليون.
فمنظر قطع طرقات لها أبعاد طائفية ومذهبية يزداد وقعاً ودفعاً نحو صدامات خطيرة، وإحراق الدواليب وتحطيم السيارات والمحال واستهداف مواطنين أبرياء بالضرب والاعتداء أصبحت مشاهد يومية تضيفُ إلى أعباء أبناء الطبقات الفقيرة والوسطى أحمالاً إضافية من الفقر والقهر والجوع.
هناك أيضاً انسداد سياسيّ كامل بين قوى الداخل تتسبّب به المشاريع الخارجية وطموحات قوى لبنانيّة للإمساك بالسلطة عبر تغطياتها الخارجية ونتائج قيصر التي يتوقعون لها أن تبيد منافسيهم السياسيين. أما الحكومة فتبدو فائضاً لا لزوم له، يتملكها جمود قاتل يزيد من حدة الانهيار، فهي منزوعة الإمكانات، وآفاقها الخارجية مسدودة، فتتعرض لأجنحة متصارعة بين القوى التي وفرت الظروف لتشكيلها. بالمقابل يزداد الصراع الأميركي – الإيراني شراسة وحدّة في كامل الإقليم، من اليمن الذي تعرّض شماله في أنحاء صنعاء لأربع وعشرين غارة سعودية – بريطانية في غضون عشر ساعات متواصلة، والعراق المفتوح على صراعات داخلية قاسية، وإيران التي تجابه أقسى عقوبات وحصار في التاريخ، وسورية التي يواصل الأميركيون والأكراد سرقة نفطها وتجويع شعبها لإسقاط دولتها.
وها هو لبنان يصاب بانسداد قاتل في معالجة انهياره الاقتصادي التاريخي الأسباب، ولم يعد يجد له من معين في الخليج وفرنسا وصناديق النقد وواشنطن.
أقفل الجميع المسالك أمام لبنان. فأصابه قيصر في كامل تفاعلاته السياسية والاقتصادية «متهماً» بإقناع أحزاب القوات والكتائب وريفي والمشنوق والتيارات الحريريّة والإخوان المسلمين «المستتركين» وبعض الجهات الكنسية وأخرى تابعة لدور الإفتاء «والقسم الآخر من وليد جنبلاط» بأن استعادة الحكم لم تعد مستحيلة باعتبار أن الانهيار يستهدف حزب الله وتحالفاته.
هذه القوى هي التي تقود أعمال العنف في شوارع لبنان وتدفعه نحو الطائفية والمذهبية حيناً وانتحال الصفة الوطنية حيناً آخر.
ضمن هذه المعطيات لا يستطيع سياسي بحجم رئيس مجلس النواب نبيه بري أن يكتفي بحماية مرجعيته السياسية في الدولة وحركة أمل وصولاً إلى تحالفاتها في 8 آذار. فالرئيس بري يعرف أن حماية هذه الموقعيّة تفترض حكماً تقاربات داخلية على المستوى الوطني لأن الاكتفاء بالمستوى السياسي لا يفعل إلا مزيداً من تأجيج الصراعات الداخلية.
ولديه أيضاً ميزات إضافية تنطلق من براعته في فهم المشهديّة السياسية اللبنانية بطابعيها الثابت والمتحرك، فثوابتها مبنية على أن وجهة الدولة التاريخية التي تأسست منذ 1943 غربية الاتجاه قد تستطيع التحوّل شرقاً إنما ببطء لا يؤدي إلى تصدعها المفاجئ وينسجم مع التحوّلات.
في التحولات المرتقبة للنظام القطبي من الأحادية الأميركية إلى نظام نفوذ تعددي يبيح للدول الصغيرة حرية نسبية للحركة. على المستوى السياسي يعمل الرئيس بري على تعزيز الميثاقية لإجهاض مشاريع تفجير طائفية متسارعة.
لذلك يُعتبر وليد جنبلاط قائداً سياسياً للدروز لا يمكن تجاهله إنما مع نصب علاقات هامة مع الأمير طلال ارسلان.
ويرتبط بعلاقات مميزة نحو النواب السنة المستقلين إنما مع إعطاء أرجحية لسعد الحريري في تمثيل السنيّة السياسية.
كذلك لا يتخلى عن مرجعية الرئيس عون بموقعيها الرئاسي من جهة وتمثيلها الأقوى لمسيحيي لبنان بمختلف مذاهبهم. وهذا لا يكون من دون نسجه علاقات جيدة مع زعيم المردة سليمان فرنجية. إن كل هذه العلاقات التي بناها بري بتمكنه السياسي مرتبطة أيضاً بإعلان انتمائه الدائم لمحور المقاومة وإيمانه العميق به. لذلك يربط بري بين تجذره في العمل السياسي وبين امتلاكه مواهب شخصية مطلوبة في هذا المجال ونادرة عند معظم الآخرين، خصوصاً أن «مَلَكَة» الإقناع تتطلب بالضرورة مهارات شخصية، إنما مع امتلاك موازنات قوى تجعل الوسيط مرهوب الجانب، مسموعاً بأدق التفاصيل التي يعرضها، مع التأكد بأنه صاحب موقع جذري لا حاجة له لأي زيادات عليه، بما يعني أن يسعى في هذه المرحلة إلى ترميم التصدع الوطني الخطير.
هذا ما يعمل عليه بري عبر وسيلتين: بناء تقاطعات أساسية مع قوى لبنانية كبرى وكل من يرفض ألعاب «الخفة والتشاطر» في زمن غير مسموح فيه بتضييع الوقت. تضم هذه القوى عملية لرص قوى 8 آذار بشكل متين والبدء بحوار مع جنبلاط والحريري وباسيل ودراسة تحرّكات الجميل وجعجع.
هنا يستطيع الرئيس بري إجراء حوارات فردية مع جنبلاط والحريري وجعجع والجميل لإنتاج مشروع سريع للاستقرار الوطني بمواكبة طلب الرؤساء عون ودياب إلى قائد الجيش جوزيف عون بتأمين الاستقرار الوطني بسرعة، خصوصاً مع اتجاه التحرّكات إلى افتعال أعمال عنف مذهبية وطائفية مدبّرة، ويستطيع الجيش ومعه قوى الأمن إجهاض أعمال التدمير التي تحمل مخططاً خارجياً خصوصاً أن لدى هاتين القوتين الرسميتين نحو مئة ألف عنصر، ويبدو أن قائدي هاتين القوتين يتساهلان بموضوع الاستقرار لاعتبارات ملتبسة يعرفها الرئيس بري.
لذلك فإن مشروع بري بثلاثة عناوين: الحكومة وإمكانية استمرارها أو تشكيل حكومة جديدة، والبلوك رقم 9 الغازي عند حدود لبنان الجنوبية. فالرئيس بري يعرف أن إعلان «إسرائيل» البدء باستغلال البئر المحاذي لأبار لبنان يعني إمكانية شفطها بشكل أفقي لغاز لبنان. وهذا بحد ذاته محاولة لدعم التفجير الداخلي للبنان بحرب خارجية. أما النقطة الثالثة فهي تأمين موارد سريعة لمنع الانهيار.
المقصود هنا أن الرئيس بري كممثل للغالبية اللبنانية سياسياً وشعبياً، لن يتأخر عن الإصرار على حكومة لبنان كي تقبل عروضاً صينية وإيرانية على مستوى الاقتصاد والعودة إلى البلوك رقم 4 الذي أوقفته «توتال» بذريعة إمكاناته المتواضعة.
فإذا تمنّع الغرب عن ذلك فلماذا نمنع روسيا أو الصين من الاستثمار في سواحلنا ومناطقنا الداخلية؟
ولماذا نمنع إيران من تزويدنا بمشتقات نفطية بالليرة اللبنانية؟!
لذلك فالرئيس بري وصل إلى قناعة تقول للمعترضين في الداخل هاتوا ما تستطيعون جلبه من الغرب وإلا اصمتوا ونحن نتكفل بمجابهة الانتحار السياسي، أي اللغة التي يتعامل الأميركيون بها مع لبنان، ويعاونهم حالياً الفرنسيون والخليجيون.
إن موازنات القوى التي يحور عليها بري وتحالفاته وعلاقاته الإقليمية والدولية وسياساته الباحثة عن الاستقرار تدفع باتجاه تشكيل جبهة سياسية فعلية تبحث في كل مكان عن مصادر لاستمرار لبنان السياسي وبالتالي الشعبي والوطني، وهذا ما يظهره مقبل الأيام.