مشاريع الضمّ والصراع على الأرض!
} نصار إبراهيم
«نحن لا نرث الأرض من الأجداد، بل نستعيرها من الأبناء» مثَل هنديٌّ أحمر.
***
مشاريع احتلال وضمّ «إسرائيل» للأرض الفلسطينية ليس عابراً أو صدفياً، كما ليس وليد اللحظة، بل هو استراتيجية مستمرة منذ زرع أول مستعمرة صهيونية على أرض فلسطين، وكان ذلك حين قامت مجموعة من اليهود في العام 1878 بشراء 3375 دونماً من أراضي قرية «ملبّس» وتمّ تسجيلها باسم النمساوي سلومون، وكان أول استيطان جماعي فيها عام 1881 الذي يعتبره المؤرّخ اليهودي والتر لاكور بداية التاريخ الرسمي للاستيطان اليهودي في فلسطين.
في هذا السياق يجب مقاربة مشروع نتنياهو الراهن بضمّ الأغوار والكتل الاستيطانية وأجزاء من مناطق (ب،ج) في الضفة الفلسطينية، أيّ باعتباره حلقة مستمرة في استراتيجية الاحتلال والاستيطان الصهيونية المتواصلة منذ ما يقارب 140 عاماً.
وعليه فإنّ مواجهة هذا المشروع اليوم لا يفيدها ردّ الفعل والارتجال والخطابات، بل كنس الأوهام حول إمكانية استحقاق الحقوق بالتسويات والتنازلات والمساومات. وشرط ذلك بناء استراتيجية وطنية فلسطينية واضحة، عميقة، طويلة، شاملة ومستمرة. فالصراع على أرض فلسطين ليس مجرد صراع أو نزاع سياسي بين جارين، بل هو صراع يديولوجي – سياسي مرير وقاس بين روايتين متناحرتين. رواية الاحتلال والاستعمار الاستيطاني الاقتلاعي المستند لايديولوجيا توراتية، ورواية التحرر الوطني الفلسطيني بكلّ أبعادها وأثقالها الحضارية والتاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية.
أولا لنقرأ بدقة الاقتباس التالي:
«هناك أشخاص (المقصود العرب) الذين يسيطرون على الأراضي الفسيحة التي تعجّ بالموارد الواضحة والمخفية. انهم يسيطرون على تقاطعات طرق العالم. أراضيهم التي كانت مهداً للحضارات الإنسانية والأديان. هؤلاء الناس لديهم إيمان واحد، لغة واحدة وتاريخ واحد ونفس التطلعات. لا يمكن لحواجز طبيعية عزل هؤلاء الناس عن بعضهم البعض… إذا، في حال وجود فرصة، لتتوحد هذه الأمة في دولة واحدة، ستقوم بأخذ مصير العالم في يديها وستفصل أوروبا عن بقية العالم. يجب علينا أخذ هذه الاعتبارات على محمل الجدّ، وينبغي زرع جسم غريب في قلب هذه الأمة لمنع التقارب بين جناحيه وان يستنفد سلطاته في حروب لا تنتهي أبداً. ويمكن أن يخدم هذا الجسم الغريب كنقطة انطلاق بالنسبة للغرب لكسب أهدافه المبرمة». مؤتمر كامبل بنرمان، هو مؤتمر انعقد في لندن عام 1905 واستمرت جلساته حتى 1907، وكان الهدف هو إقناع رئيس الوزراء الجديد بالعمل لتشكيل جبهة استعمارية لمواجهة التوسع الاستعماري الألماني، ولتحقيق بعض الأهداف التوسعية في آسيا وأفريقيا. وبالفعل تأسّست هذه اللجنة العليا، واجتمعت في لندن عام 1907، وكانت تضمّ ممثلين عن الدول الاستعمارية الأوروبية وهي: انكلترا، فرنسا، إيطاليا، إسبانيا، البرتغال، بلجيكا وهولندا، الى جانب كبار علماء التاريخ والاجتماع والاقتصاد والزراعة والجغرافيا والبترول. وفي نهاية المؤتمر (1907) خرج المجتمعون بوثيقة سرية سموها «وثيقة كامبل» نسبة إلى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك هنري كامبل بانرمان( Sir H.Compbell Bonnerman) استعرض المؤتمر الأخطار التي يمكن أن تنطلق من تلك المستعمرات، فاستبعد قيام مثل تلك الأخطار في كلّ من الهند والشرق الأقصى وأفريقيا والمحيط الأطلسي والهادئ، نظراً لانشغالها بالمشاكل الدينية والعنصرية والطائفية، وبالتالي بُعدها عن العالم المتمدّن. ورأى بأنّ مصدر الخطر الحقيقي على الدول الاستعمارية، إنما يكمن في المناطق العربية من الدولة العثمانية، لا سيما بعد أن أظهرت شعوبها يقظة سياسية، ووعياً قومياً ضدّ التدخل الأجنبي والهجرة اليهودية والحكم التركي، كما أشار المؤتمر أيضاً إلى أنّ خطورة الشعب العربي تأتي من عوامل عدّة يملكها: وحدة التاريخ واللغة والثقافة والهدف والآمال وتزايد السكان… كما لم ينس المؤتمر أيضاً، عوامل التقدم العلمي والفني والثقافي .
ولهذا، رأى المؤتمر ضرورة العمل على أربعة محاور: 1- استمرار حالة التخلف في المنطقة العربية؛ 2- إيجاد التفكك والتجزئة والانقسام وإنشاء دويلات مصطنعة تابعة للدول الأوروبية وخاضعة لسيطرتها؛ 3- ولهذا أكد المؤتمرون على فصل الجزء الأفريقي من المنطقة العربية عن جزئها الآسيوي، 4- ولتحقيق ذلك من الضروري إقامة دولة عازلة Buffer State ، بحيث تكون معادية لشعب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية. وهكذا قامت اسرائيل.» تقرير كامبل المُشار إليه يعتبر من أهمّ وأخطر الوثائق التي تشير بوضوح كامل إلى محورية ووظيفة المشروع الصهيوني باعتباره ركيزة عضوية في المشروع الاستعماري (لاحظ البند الرابع) الذي استهدف تقسيم العالم العربي والسيطرة على ثرواته والهيمنة على أنظمته السياسية. بعد أن تمّ تحديد الوظيفة والدور، بدأ البحث عن المسوغات الفكرية والثقافية لتحويل المشروع الصهيوني إلى واقع سياسي، الأمر الذي ترجم لاحقاً في اتفاقيات سايكس – بيكو عام 1916، وبعدها في الثاني من نوفمبر 1917 تمّ إصدار وعد بلفور الشهير، وكلّ ذلك ترجم في صكّ الانتداب البريطاني الذي أقرّ في هيئة الأمم عام 1922. في هذا السياق تتحرك عملية الصراع على الأرض في فلسطين، الأمر الذي فرض على الحركة الصهيونية والقوى الاستعمارية تقديم مبرّرات للسيطرة على أرض فلسطين واستيطانها.
من هنا بدأ الصراع على أرض فلسطين يأخذ ملامحه الأيديولوجية الدينية العنصرية الصهيونية، أيّ تبرير اقتلاع الشعب الفلسطيني والاستيلاء على أرضه باعتباره «وعد إلهي»، ما يجنّب الممارسة والسلوك الصهيوني الإشكالية الأخلاقية، ويؤمّن له التقاطع مع مقاربة المجتمعات الأوروبية «المسيحية» باعتبارها الحاضنة والظهير لنجاح المشروع، وأيضاً للحفاظ على جوهر المشروع الأصلي كمشروع هيمنة وتقسيم للمنطقة العربية. إذن، وظيفة الأرض في الفكر الاستعماري الصهيوني ليست نابعة من قيمتها الزراعية أو خصبها أو لكونها مقدّسة، أو لارتباط الجماعة اليهودية بها عاطفياً ومعنوياً بل بقدر ما تؤمّن نجاح مشروع الهيمنة الاستعماري على العالم العربي وتشكيل عازل يمنع وحدته لاحقاً.
بهذا المعنى وفي هذا السياق يمكن فهم السياسات الصهيونية والاستيطانية المستمرة في فلسطين، وما يرتبط بذلك من اقتلاع وتهويد واحتلال لذاكرة المكان التاريخية والحضارية والثقافية، ذلك لأنّ أيّ تراجع عن هذه السياسة ترى فيه الحركة الصهيونية خطراً يتهدّد ركائز الفكرة الأيديولوجية التوراتية التي اعتمدتها لتسويقه وتبريره، الأمر الذي يعني في النهاية المساس بصدقية الرواية وهزّها من الأعماق. هذه الرواية الصهيونية، التي بذلت في سبيل تكريسها كلّ ما تستطيع، تركزت في النهاية على العمل وبكلّ الوسائل الوحشية لفك ارتباط الفلسطيني بأرضه، فالأرض بالنسبة للفلسطيني هي رديف حياته، إنها جوهر الانتماء للمكان بكلّ تفاصيله الموغلة في حضارة هذا الشعب التي تعود لآلاف السنين، عليها تشكلت ثقافته وأساطيره وعاداته وعلاقاته الاجتماعية مع ذاته ومع محيطه ومع العالم، فالأرض عند الفلسطيني ليست مجرد رواية إنها كينونة، وتواصل، وهذا حال الشعوب التي تشكل الزراعة نمط حياتها وثقافاتها وفلسفتها في الوجود.
فيما الأرض عند المشروع الصهيوني أداة أيديولوجية – سياسية أولا وعاشر – حتى وإنْ كانت عند البسطاء من اليهود تحتلّ مكانة معنوية ودينية. بذات المعنى السياسي هي كذلك عند الدول الاستعمارية التي لا تزال تدعم وتساند هذا المشروع، ليس لقناعتها بأرض الميعاد، ولكن لأنها لا تزال تعمل لبقاء مشروع كامبل المشار إليه أعلاه قوياً وفاعلاً للسيطرة على العالم العربي وثرواته، ومنع وحدة الأمة العربية، وتكريس تخلفه، فما دام المشروع الصهيوني يحتلّ فلسطين فمعناه منع القاء بين جناحي العالم العربي الأسيوي والأفريقي. ومع ذلك وبالرغم من الاختلال الهائل في موازين القوى، إلا أن المشروع المذكور اصطدم بوجود الشعب الفلسطيني، الذي يسكن أرض فلسطين الآرض منذ آلاف السنين، وهو مرتبط بها حضارياً واجتماعياً ونفسياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً بصورة لا فكاك منها، هكذا وجدت الحركة الصهيونية ورعاتها نفسيهما أمام معضلة جدية، فكيف يمكن تبرير الاستيلاء على أرض الشعب الفلسطيني، بكل ما يعنيه ذلك من حقوق طبيعية وتاريخية؟
هنا بالضبط تمّ استحضار الرواية التوراتية لتكون الأساس الذي عليه تبنى مداميك المشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين، فبما أنه كان من الصعب نقض المشروعية التاريخية والحضارية والطبيعية التي يتمتع بها الشعب الفلسطيني في أرضه، إذن يجب تقديم رواية ومقاربة تستمد أسسها وهيبتها وشرعيتها بما يتخطى المشروعية الأرضية، أي بمعنى إذا كانت مشروعية الشعب الفلسطيني في أرضه نابعة من التاريخ والجغرافية فإنّ المشروع الصهيوني يستمد شرعيته من السماء مباشرة. في ضوء هذا الواقع، فإنّ الصراع على أرض فلسطين لا يزال في ذروته، والشعب الفلسطيني قدّم ولا يزال يقدّم أنهاراً من التضحيات دفاعاً عن أرضه وحقوقه، والتاريخ لم يقل كلمته النهائية بعد.
بقيت كلمة أخيرة للقوى والقيادات السياسية الفلسطينية:
«نحن لا نرث الأرض من الأجداد، بل نستعيرها من الأبناء» هذا ما قاله ذات يوم بعيد هنديٌّ أحمر.
يعكس هذا القول روعة الفلسفة والوعي الذي يسكن أعماق الهنود الحمر وعلاقتهم بالأرض والطبيعة، الهنود الحكماء الذين شيطنهم الكاوبوي والغزاة البيض (كما يجري اليوم شيطنة الشعب الفلسطيني)، فافسدوا حياتهم بالأمراض والمشروبات وأبادوهم كما أبادوا خيول الموستانغ وثيران البيسون في سهوب وبراري أميركا الشاسعة. نحن لا نرث الأرض بل نستعيرها، في هذا القول حكمة الروح، ذلك لأنّ من يرث الأرض إنما يرثها من شخص أو طرف يكون قد رحل، هذا يعني أنّ للوارث الحق بالتصرف بما ورث كما يشاء، لأنه يصبح ملكاً له، بما في ذلك تخريبه أو تقسيمه أو إهداءه أو بيعه.. أما من يستعير شيئاً فهو ملزم أخلاقياً وأدبياً وقانونياً أن يحافظ على الشئ الذي استعاره وأن يعيده لصاحبه بأفضل حال. وصاحب الأرض في حالنا الفلسطيني هي أجيال فلسطين القادمة. إذن الهندي الأحمر الحكيم يذكرنا: إياكم وذلك، فـ «نحن لا نرث الأرض من أجدادنا، بل نستعيرها من الأبناء»، لهذا من حقهم علينا ومن واجبنا تجاههم أن نعيد إليهم الوديعة والأمانة بأبهى وأجمل ما يكون؛ موحدة حرة كريمة.