لبنان في مرمى «العثمانية» بتوافق أميركي ـ «إسرائيلي»
} د. حسن مرهج
كثيرة هي التدخلات التركية في الدول العربية، إذ تنوّعت وسائل التدخل التركي ضمن مفاهيم القوة الصلبة بالأطر العسكرية والاقتصادية، وكذا ضمن مفاهيم القوة الناعمة من خلال المؤسسات الجمعيات الخيرية، كل ذلك لتحقيق مصالحها وتعزيز نفوذها في المحيط الإقليمي.
ضمن ما سبق، يُعد لبنان إحدى الدول العربية ذات الأهمية الاستراتيجية في توجهات تركيا الإقليمية، لما له من أهمية في التأثير على كثير من الدول المجاورة، أو لتنفيذ الأهداف الإقليمية التركية بما يتوافق مع مصالح أردوغان، فالأهداف التركية في لبنان وجدت في ضعف القيادة السياسية، بيئة خصبة لتعزيز الدور التركي، كما أنّ تركيا تعمل وفق سياساتها على إيجاد نوع من التوازن الطائفي، وضمن نفس السياق فإنّ الأقلية التركمانية اللبنانية ترتبط بتركيا؛ هذا الارتباط ازداد بعد وصول حزب «العدالة والتنمية» إلى السلطة في تركيا، فضلاً عن محاولات تركيا بتعزيز نفوذها في مدينة طرابلس اللبنانية، الأمر الذي تُرجم برفع الأعلام التركية في أكثر من مناسبة، في تلك المدينة الشمالية.
تركيا لا تترك أي بلد عربي مأزوم ويعاني مشكلات داخلية، للدخول واللعب على وتر المظلومية «السنية» وتقديم نفسها كحامي «السنة» ومنقذها من الاضطهاد، وهي ذاتها خطة داعش ونفس أسلوبه، فالداخل اللبناني لم يعد يتحمّل المزيد من التعقيدات في الملف الطائفي، وحل مشاكله في الأساس يكمن في إمكانية الخروج من هذا النفق، لا تعميقه بتدخلات تركية واضحة المضمون والأهداف للجميع.
بعودة سريعة إلى الوراء، نقول بأنّ التوتر الأخير الحاصل بين بيروت وأنقرة على خلفية تغريدة للرئيس اللبناني ميشال عون ضدّ جرائم العثمانيين بحق اللبنانيين، ثم ردّ الخارجية التركية على تلك التغريدة وبعدها قيام عدد من اللبنانيين بتعليق لافتة على باب السفارة التركية اعتبرتها أنقرة مسيئة ومستفزة، كلّ ذلك أعاد لأذهان اللبنانيين خصوصاً والعرب عموماً إمكانية وجود أطماع تركية في لبنان، التي تعيش انقسامات سياسية مستمرة منذ سنوات طويلة.
ويرى البعض أنّ بدايات التدخل التركي في لبنان كان هدفه حماية «إسرائيل»، حيث كانت تل أبيب قد طالبت بوجود قوات اليونيفيل على أنه يكون قسم منها قوات تركية على حدود الأراضي المحتلة ولبنان، وبرّرت «إسرائيل» ذلك الطلب هو أن تركيا دولة مسلمة وعضو في حلف الناتو وجيشها مدرب جيداً، فما كان من أردوغان إلا أن استجاب للطلب الإسرائيلي وأرسل قوات من جيشه ضمن اليونيفيل إلى الحدود مع الأراضي المحتلة. في ذات السياق تحدثت تقارير صحفية عن قيام تركيا باستغلال قوات اليونيفيل لزيادة تواجد قواتها على الأرض اللبنانية كان آخرها في العام 2018.
أيضاً في وقت سابق، أثارت زيارة السفير التركي لدى بيروت هكان تشاكل إلى مناطق تواجد التركمان في منطقة البقاع شرقي لبنان، ومن ثم لقائه بمفتي منطقة بعلبك الهرمل الشيخ خالد الصلح، ووفداً من مشايخ وأعيان بعلبك حفيظة الكثير من اللبنانيين الذين اعتبروا أنّ زيارة السفير التركي تمهيد من أنقرة للولوج إلى الداخل اللبناني من بوابة تركمان لبنان.
في جانب موازٍ، تحاول تركيا أن يكون لها موطئ قدم في مياه شرق المتوسط، عبر نسج علاقات مع لبنان، خاصة بعد التوترات التركية اليونانية، ومثلها المصرية.
التوغل التركي في لبنان تمّ وفق آليات عدة، من ضمن ذلك سعت تركيا إنشاء مراكز ثقافية لتعليم اللغة التركية، والترويج للثقافة التركية وتقديم منح دراسية مع إعطاء الطلاب تسهيلات للدراسة في المراكز الواقعة بالشمال اللبناني، فهناك المركز الثقافي التركي في بيروت؛ الذي يعمل لتحقيق المخطط التركي؛ إذ أنه يعلن دائما على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي عن بدء قبول طلبات للراغبين في الانتساب إليه لتعلم اللغة التركية مع تقديم العديد من التسهيلات لتشجيع اللبنانيين للانضمام إليه.
أيضاً الجمعيات الخيرية، فقد وضعت أنقرة نُصب أعينها اللاجئين الفلسطينيين والسوريين الموجودين في مخيمات بمختلف الأراضي اللبنانية؛ حيث وظفت جمعياتها الخيرية من أجل السيطرة على هؤلاء تحت شعار المساعدات الإنسانية والمشاريع الإنمائية والتعليمية والثقافية.
كلً ما سبق جعل جزءاً كبيراً من اللبنانيين يستشعرون محاولات تركية للتوغل في بلدهم ومجتمعهم، وهو أيضاً ما يثير مخاوف عدد من الدول العربية على رأسها السعودية والإمارات وسورية، وعليه فإنّ تركيا تسعى للدخول إلى لبنان بالاعتماد على تناقضات الحالة السنية والشيعية لتثبيت النفوذ والتدخل في الشأن العربي، ولا شكّ أنّ هذا له مردوده السلبي على الداخل التركي لأنّ هناك تنوعات عرقية وطائفية في أنقرة.
وبالتالي، من الواضح أن تركيا تحاول نشر نفوذها الاستعماري خارجياً، من خلال إنشاء المؤسسات الثقافية والخيرية والتعليمية؛ وذلك لتحقيق حلم إحياء الإمبراطورية العثمانية؛ ووجدت أنقرة في لبنان ضالتها وتحديداً في الشمال؛ حيث أكبر نسبة للتيارات السنية وتحديداً في مدينة طرابلس وفي الجنوب مدينة صيدا.
هناك جزئية تؤكد النوايا التركية تُجاه لبنان، فقد أعلنت القوى الأمنية في لبنان، عن إلقاء القبض على مجموعات مرتبطة بالأمن التركي، وتعمل تلك المجموعات على إشعال الفتنة في بيروت وفي الشمال اللبناني، خاصة أنها تتلقى تمويلاً مباشراً من الأمن التركي وبإشراف مباشر من رجب طيب أردوغان.
في المحصلة، من الواضح أنّ هناك تناغماً بين الممارسات التركية والتصريحات الأميركية والنوايا الاسرائيلية في لبنان، الأمر الذي يشي بأنّ قادم الأيام سيحمل الكثير من التطورات بجانبيها السياسي والاقتصادي، لكن في المقابل، يبدو أنّ أردوغان ترامب نتنياهو، قد غاب عن أذهانهم أنّ الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، يقرأ المشهد اللبناني بطريقة استراتيجية بعيدة المدى، وهو بذلك يتقدّم بخطوة على كلّ ما يُحاك للبنان، وكما تمّ إسقاط كلّ الأهداف الأميركية والتركية و»الإسرائيلية» في سورية، ففي لبنان مقاومة لا يُمكن اختراقها، وستُسقط كلّ ما يُحاك للبنان. فاطمئنّوا.