ما وراء الأيقونيّة وانزاياحات الألوان في إبداعات مانويلا أمون النمساويّة
طلال مرتضى*
بعيداً عن تأثير انزياح الألوان والدلالات المقروءة أو المضمَرة عمداً التي يشتغل عليها الفنان التشكيلي بعناية مكثّفة لِيواري مفاتيحها عن المشاهد المتلقي فيترك له محاولة الذهاب إلى تأويلات وإشارات جديدة غير التي تركها هو داخل إطار اللوحة..
ثمّة مدلولات أخرى وإشارات غير تلك التي بقيت قيد الدرس بين الفنان المبدع والمتلقي القارئ، وهي الدخول من خلال مسارب لونيّة ذات عناوين وعتبات أعلى من تلك التي نتداولها في فك أكواد المنجز الأدبي والفني. وهنا أشير على سبيل المثال لا الحصر، مثل البحث عن بؤر معينة كامنة داخل الطبقات اللونيّة والتي تكمن في داخلها نقاط الضوء المظللة بألوان غالباً ما تكون غائمة بعض الشيء أو شديدة العزلة كاللون الأسود الأساس، والتي يتسلّل إليها القارئ عبر الخطوط المستقيمة العريضة أو الملتوية مع مراعاة احتساب حجم حركة الظلّ وتمدّده داخل إطار العمل الفنّي لاستشفاف عما يوازيه من رموز وإشارات بعيدة.
تلك فاتحة أولى لقراءة متأنية ومختلفة لتجربة فنية بدأت شقّ طريقها بخطوات ثابتة ولافتة..
لعل القارئ يضع الأن نقطة نهاية سطر القراءة ليتوقف لبرهة لمعايرة ومفارقة ما تركته (أنا) الكاتب من إشارات عن اختلاف تلك التجربة وثباتها اللافت. وهنا أقول بأن القارئ هو الأخر يحق له التأويل كما المبدع ومطالبته للأخير بتقديم شروحات تفصيلية تمكّنه من فك طلاسم مدلولاته أو رموزه التي أطلقها لكونه أول مَن عاين العمل الفنّي عن كثب قبله والناظر بأدوات الحس والنظر معاً..
هذا الاختلاف يمكن التقاطه ومعاينته في تجربة الفنانة التشكيلية مانويلا أمون النمساوية، وذلك من خلال اشتغالها بألوان مضيئة جداً تكتنز في تفاصيلها التعريفية الكثيرة مقومات الطاقة الساخنة في الغالب الأعم. وهذا ما جعلني أقول في البداية بأنها تجربة مختلفة، لأن إحدى تيمات الألوان المضيئة، أنها صعبة المراس في الشغل الفني يرد ذلك إلى أن الخطأ فيها يتجلى بوضوح وبشكل مباشر في عيون القارئ، وهو ما قد يُسهِم بكسر القيمة الفنية للعمل أو يحرف دلالة الفكرة كلياً، فتلك الألوان تحديداً تحتاج لدقة عالية ويد تضرب أرض اللوحة لمرة واحدة وفي مكانها الصحيح وبفعالية تركيز تختلف عما سواها. وهذا كله يعود إلى أن تلك الألوان تنتمي إلى فصيلة «الأكرليك» أو اللون الأساس «الزيت»، فالخطأ الواحد يتطلب العودة لجولة طلاء جديدة؛ وهذا ما يجعل فكرة الفنان تبرد وتخفّ انفعالاته وربما تتبدد خيوط الفكرة كلها، ويعود هذا أيضاً لسببين مهمين، الأول، بالنسبة لألوان الزيت، فهي تحتاج لوقت طويل كي تجف وأما بالنسبة للسبب الثاني فاإن الأكرليك هو عكس ألوان الزيت تماماً، يجف على سطح اللوحة بسرعة مخيفة، إذا لم يكن الرسام متيقظاً ومنتبه الحواس سوف تتوهه دلالات فكرته الرئيسية.
وهنا لا بد من القول إن اشتغال مانويلا أمون بتلك الألوان ما هو إلا جرأة مكتظة بالثقة التي لا نجدها عند عدد كبير من فنانين نجوم يتوارون جميعاً وراء ألوان غائمة المعطى الدلالي وتلتبس فيها علامات الخطأ تحت معنونات التعمية أو التمويه. ترتكز الفنانة مانويلا في بناء عملها الفنّي على ألوان أساسيّة تعطي مساحات ضوئية أكبر من حجم اللوحة في عين المتلقي مثل اللون الأزرق والأصفر أو الأزرق السماوي الفاتح، تلك الألوان بعينها، المدماك الأولي في عملية بناء اللوحة، فهي وبعيداً عن إرسالها ارتدادات الهدوء والصفاء والنقاء في النفس، أشي بأن لديها خاصية أخرى غير التي نعرفها، فهي وبحجم وجودها الطاقي في اللوحة إلا أنها لا تُسهم بإلغاء حضور أي لون آخر بل تساعد على إبراز مفاتنه، هذا قبل البدء بالمرحلة الأخرى والتي تتشكل من خطوط عدة مستقيمة وعريضة وأخرى ملتوية تقترب كثيراً بالتشابه مع شبكة العنكبوت ورفيعة جداً لدرجة أنها تتمكّن من قطع كل الخطوط المستقيمة. وهذا ما يجعل القارئ في كثير من الأحيان القرائية يدور داخل حلقات مفرغة ومتوالية كالمتاهات، وبالفعل أجد أن تلك الخطوط المتشابكة تشبه تماماً الكمائن أو الحواجز التي استطاعت قطع الخطوط المستقيمة التي تمثل خريطة طريق العمل الفني، وهنا أستنبط بأن مانويلا تقصدت من وراء كل هذا الافتعال أن تجعل المتلقي يمشي ببطء وحذر كي يتمكن من الوصول إلى فكرة العمل الفني. اللافت في تجربة مانويلا أمون أن عملها لا يذهب نحو تجريد الفكرة من محتواها ليتركها مبهمة، ثم أنها لم تذهب إلى إثقال لوحتها بالطبقات اللونيّة المتعددة، وتلك تيمة يرتكبها معظم الفنانين التشكيليين ممن يزاولون ألوان الأساس «الزيت»؛ وهو ما يجعل نبض اللوحة ثقيلاً وبالملامسة يمكن للقارئ أن يشعر بأن لوحة مانويلا تنبض بالحياة، لكون مسام القماش على مقربة فعلية من مكونات الطبيعة «الهواء، الماء، البرد والحرارة، فلوحتها قابلة للتكيّف تحت شروط الطبيعية العادية التي ذكرتها على عكس اللوحات التي تمّ بناؤها على طبقات لونيّة كثيفة عدة، فهي تحتاج في الغالب إلى عناية خاصة مثل بشرة الإنسان، لأن تعرّضها للبرد قد يتسبب بتشققها وتكاثف بؤر البثور أو الحرارة التي تغير دائما دلالة اللون وإشارته.
وكما ذكرت فإن اللون الأزرق والأصفر هما المحور الأساسي في أعمالها، هذا مع حضور طفيف ومتفاوت للأحمر المتماوج وبشكل حالات انفعالية في مساحات معنية، وعند الكثير من تقاطعات الخطوط، فمن دون لبس أشي بأن وجود الأحمر وبهذه التدرّجات يذهب بمعطاه إلى تكاثف الحالة الحسية العاطفية أكثر من أن تشير رموزه نحو فورات الغضب أو الحنق، فالقراءة الصحيحة تقول، إن اللون الأزرق الذي يهب العين الكثير من الهدوء والصفاء لكونه ينتمي لسلطة الماء وبهاء زرقة السماء مع الأصفر الذي يولد الطاقة الإيجابية والذي يتوازى بالدلالة مع الأزرق كلونين يبعثان الضوء، هذا يؤسس إلى استجرار اللون الأحمر ليكون الحاضر الثالث في اللعبة الفنية والذي يمثل التدفق العاطفي.
وحدها تشكيلات الجسد الأنثوي لدى تجربة مانويلا تأخذ قارئها إلى غير جهة ومنحى، فمن المعتاد أن نقف أمام تشكيل لجسد المرأة لفنانين كبار قد انصرفوا لإظهار الأجزاء المثيرة والفاتنة من خلال اشتغالها بألوان تقارب الصورة الواقعية للجسد، تلك الألوان التي تقدّم هذا الجسد للقارئ على سرير من ذهب، فجسد الأنثى عند مانويلا هو ليس أكثر من خطوط وتعرّجات تتشكّل على المساحة الزرقاء أو السوداء. والجميل في هذه الخطوط أنها لم تأخذ لون الجسد الحقيقي، فعلى المساحة السوداء شكلت الأجساد بخطوط حمراء وعلى الأرضية الزرقاء الفاتحة رسمت باللون الأزرق الغامق وتركت للقارئ وحده أن يؤول تلك التعرّجات حسب رؤيته للجسد في متخيّله.
وكخلاصة نهائيّة أقول بأن تجربة مانويلا تذهب بكل ممكناتها نحو الفنّ الرومانسي والهادئ، فكل لطشات فرشاتها مدروسة، دأبت على تركها ضمن إطار اللوحة على انتظار مَن سيقوم بالكشف عن حرزها المرصود.
*كاتب عربي/ فيينا