الإرهاب ومعادلاته الاستراتيجية… نظريات السيطرة والنفوذ
د. حسن مرهج
يعدّ مصطلح الإرهاب من أكثر وأشدّ المصطلحات جذباً للانتباه، على المستوى الشخصي أو على المستوى الدولي، إذ تغصّ وسائل الإعلام بمختلف توجهاتها وأجنداتها بهذا المصطلح، وتحديداً خلال العقدين الأخيرين، غير أنه بات في الوقت نفسه المصطلح الأكثر إثارة للحروب والصدامات والاصطفافات، والأشدّ تبايناً في المفاهيم والتفسير والاجتهادات، فكلّ طرف أو تحالف في جعبته تعريفه ومفهومه وتفسيره لمعنى الإرهاب، وكذلك مبرّراته ومسوغاته لممارسته أو التصدي له، وفقاً للحسابات والمصالح الخاصة به أو بذلك الطرف أو ذاك التحالف. وحيث أنّ الحسابات والمصالح الخاصة بكلّ طرف نسبية ويمكن أن تتباين أو تتقاطع مع حسابات ومصالح طرف ثان أو ثالث، فإنّ زاوية النظر والرؤية والموقف منها بالضرورة تعزّز أجندة الأهداف التي تتباين بالتالي المواقف حولها، ويصبح العمل المشروع لدى طرف معيّن، باطلاً لدى طرف آخر.
والتعريف الدقيق للإرهاب غائب، ولكن كلمة terrorism تعني ترويع ورعب وخوف شديد واضطراب عنيف، وأنه بمثابة القتل والاغتيال والاختطاف والتخويف والتدمير واحتجاز الرهائن وتفجير القنابل والسطو والنهب، وإحراق المباني والمنشآت العامة، وبشكل عام لكلّ فعل إرهابي سمات هي عمل عنيف يعرّض الأرواح والممتلكات للخطر وموجه إلى أفراد او مؤسسات او مصالح تابعة لدولة ما، وأيضا يسعى الى تحقيق أهداف سياسية.
ضمن ذلك، يمكننا أن نضع معياراً للانطلاق منه في استراتيجيات الارهاب وتوظيفه سياسياً وعسكرياً، ولا نجافي الحقيقة إنْ قلنا بأنّ ما بعد الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر ليس كما قبله، إذ دأبت مراكز الأبحاث وكذا السياسيين والمحللين، على الأخذ من التاريخ السابق نقطة مفصلية في طبيعة المسارات السياسية والعسكرية في المنطقة العربية تحديداً، فقد استخدمت واشنطن ذريعة الإرهاب للولوج إلى قلب المنطقة العربية بغية محاربته، وفي هدف استراتيجي بعيد المدى، سعت الإدارة الأميركية إلى استنساخ الإرهابيين من جديد وتوظيفهم في فصائل وسرايا إرهابية، وإطلاق يدهم في مساحات جغرافية درست بعناية، بغية إطلاق المشروع الأميركي لمعروف بإسم «الشرق الأوسط الجديد».
لسنا بصدد توضيح الخطة الأميركية لاحتلال المنطقة بطرق ترتكز على مضامين محاربة الإرهاب، فهذا المسار بات واضحاً للجميع، بل نحن نحاول تسليط الضوء على استراتيجية الإرهاب وتوظيفه من قبل الغرب، لتأمين وجود مستدام ذي طبيعية سياسية وعسكرية، خاصة أنّ مفهوم الإرهاب في الغرب واستثماراته، لا تعدّ حديثة العهد، إذ أن التاريخ يذكر الكثير من تفاصيل توظيف الإرهاب في أوروبا وأفريقيا، للحصول على مكاسب سياسية، فضلاً عن احتلال بطرق غير مباشرة لأماكن ضربها الإرهاب، وفق تخطيط وهندسة من قبل أجهزة الاستخبارات الغربية.
بطبيعة الحال، اشتغل ساسة الغرب ومراكز أبحاثه وإعلامه، على تعميم مصطلح الإرهاب وفق وسائل متعدّدة، وعليه تمّ توجيه مفردات الإرهاب نحو الشرق الأوسط، لضمان السيطرة عليه وفق المفاهيم العسكرية، عطفاً على بناء قوانين تمسّ بشكل مباشر مواطني الدول التي صنع من أجلها الإرهاب، وهنا ترد أسئلة كثيرة حول ماهية الحرب على الإرهاب، وحول غاية حملة الغرب المسعورة على المنطقة، وحول ذلك الإصرار على إطلاق مصطلح «الإرهاب الإسلامي» أو «الإسلام الإرهابي»، مع علم صانع القرار في الغرب، أنّ مثل هذه التوصيفات لا أساس لها من الصحة، وهو ما أدلى به الصحافي الأسترالي جون بيلجر بقوله: «أسجل اعترافاتي للتاريخ، لتقرأها الأجيال القادمة، نحن في الغرب مصدر الإرهاب في العالم.. والمسلمون هم الضحايا».
من الواضح أنّ الدول العربية والإسلامية تعدّ مركزاً للتنافس الدولي نظراً لموقعها الاستراتيجي من جهة، ومن جهة ثانية نظراً لاحتوائها على ثروات نفطية وزراعية هائلة، من هنا نجد أنّ الإرهاب ينتشر في تلك البلدان بحرفية استخباراتية هائلة، كما هو الحال في سيناء وليبيا وتونس والصحراء الغربية ومالي والصومال وكينيا وغيرها.
وفي جانب آخر يمكننا ملاحظة أنّ نسخ الإرهاب ليست واحدة، بمعنى أنّ معادلة الإرهاب تختلف باختلاف الهدف والاستراتيجية، لتتناسب مع حجم المخطط الغربي وماهيته، فإذا كان المطلوب إنشاء نظام عالمي جديد، فإنّ الإرهاب المفترض يجب أن يشكل مساراً يتناسب ونوعية الهدف المطلوب، كـ هندسة حدث إرهابي عالمي يحقق صدمة عالمية، من هنا نعود إلى أحداث 11 أيلول/ سبتمبر والتي كانت تداعياتها تحقق الهدف الأميركي، فـ احتلال العراق وأفغانستان يأتي في إطار تشكيل نظام عالمي جديد.
في ذات السياق، قد تكون استراتيجية الإرهاب تمثل هدفاً يتمحور حول حماية دولة إقليمية، ترتبط بمصالح استراتيجية مع الدول العظمى، ولا سبيل لحمايتها إلا بزرع الإرهاب في محيطها، لهدفين أحدهما حمايتها بغية جذب الأنظار الدولية لـ «معاناتها»، والثاني إقامة مراكز رعب تضرب يميناً وشمالاً الدول المحيطة بها، ولعلّ ظهور داعش قد حقق جزئياً هذه الغاية، فـ سبي النساء وبيعهم، وحرق الأســرى بشكل سينمائي موثق يضاهي في إنتاجه وإخراجه صناع الأفلام الأميركية، كل هذا يؤكد بأن الإرهاب خرج وما زال في العباءة الأميركية.
بناء على ما سبق، لا بدّ من قراءة الواقع بشكل متأنّ، في محاولة لفهم ماهية هذه الحرب الغربية، والتي يتمّ تحت مظلتها التهجّم على دول المنطقة، مع قتل وتشريد ممنهج ومستمر؛ في هذا الإطار لا بدّ من ملاحظة أنّ الحملة المزعومة على «الإرهاب» شكلت تحوّلاً نوعياً في تعامل الدول والمنظمات والمؤسسات المرتبطة بها مع القضايا العالمية والمحلية على حدّ سواء، ما يعبّر عن كونها سياسة عالمية متناسقة تتناسب مع مخططات الدول المؤثرة في هذا العالم، التي باتت تستعمله كذريعة رخيصة لتبرير وتمرير سياساتها.
الحرب المزعومة التي يشنّها الغرب ضدّ الإرهاب، تمثل مظلة واسعة للتنافس الدولي، فكلّ الذرائع والمبررات التي تسوق، إنما هي نتاج توافق عالمي، وإن كان خلاف ذلك، لوجدت بعض الدول فرصة لفضح هذه الخطط ضد من ينافسها، لكن جميع الدول الغربية في ذات المسار، وهنا لا نقول بأن التنافس بين الدول قد انتهى، فهذا غير وراد إطلاقاً نظراً لطبيعة التعاطي مع الإرهاب، وتوظيف في ما بينهم وفق مصالح سياسية، وتظهر هذه الحالة بأشكال مختلفة، على نحو أزمات اقتصادية أو توسع عسكري أو دخول في أحلاف أمنية وسياسية واقتصادية، والأمثلة على ذلك كثيرة منها، أزمة الولايات المتحدة مع أوروبا والصين بما يتعلق بالتجارة الدولية، والقضايا الشائكة والمعقدة بين روسيا وأوروبا، والتوسع العسكري الملحوظ لأميركا وبريطانيا وفرنسا في شمال أفريقيا والقرن الأفريقي والشرق الأوسط وغيرها.
الحرب على الإرهاب تعدّ ذريعة مناسبة للدول للتوسع وبسط النفوذ، فضلاً عن تنفيذ الأجندات، فتارة يستخدم الإرهاب كـ ستار يؤمّن لها بيئة آمنة تحول دون الوصول لحالات الصدام العسكري المباشر مع الدولة المستهدفة بالإرهاب، ثم تبدأ بوضع الخطط ورسم السياسات والدخول في بازارات سياسية، لعقد صفقات وشراكات خبيثة، ودون ذلك فإن الارهاب المصمّم بأيدي الغرب، سينتشر ويحول الدولة المستهدفة إلى ساحة معارك إقليمية ودولية، كلّ ذلك باسم الحرب على الإرهاب. هكذا فهمت الدول الكبرى وأتباعها اللعبة، وصاروا يمارسونها باحتراف، وصارت وسيلة رائجة وسهلة الاستخدام.
الأمثلة في التوصيف السابق نعتقد أنها واضحة، وما يحدث في سورية أبرز مثال على ذلك، حيث احتلت أميركا ثلثها عملياً بحجة الحرب على «تنظيم داعش» المصنّف إرهابياً عالمياً، بعد أن تركه العالم برمته سنتين يسرح ويمرح كيفما يشتهي في سورية والعراق، على مرأى ومسمع الغرب، فيما اجتاحت تركيا شمال سورية وأقامت حزاماً أمنياً واسعاً بذريعة القضاء على تنظيم العمال الكردستاني، وملحقاته الإرهابية التي تدعمها أميركا، كذلك تجد القوات البريطانية والفرنسية منتشرة علناً في عدة مناطق في سورية بنفس الذريعة، فضلاً عن القواعد العسكرية التي باتت منتشرة لجميع هذه الدول في سورية بنفس الحجة.
صفوة القول، بات من الواضح أنّ كرة الإرهاب تتسع وتصغر حسب مقتضيات الدول الكبرى وعلى رأسهم الولايات المتحدة، وعليه فإنّ الحرب على الإرهاب هي استراتيجية غربية بامتياز، تمنح القوى الكبرى الغطاء المطلوب لتمرير سياساتها. كما أنها استراتيجية خبيثة تمنح الدول الكبرى والمرتبطين بها «الحق» في ممارسة أسوأ أنواع البلطجة السياسية وتمريرها في هذا العالم دون رادع. تلك السياسات التي لم تكن لتمر في الشكل أو المضمون دون وجود مثل تلك الذريعة.