«الفدرالية الأميركية» نحو احتضار قريب!!
} د. وفيق إبراهيم
الولايات المتحدة الأميركية مهددة في هذه المرحلة التي يديرها الرئيس دونالد ترامب بالتحوّل إلى نظام كونفدرالي يجمع بين جمهوريات متمايزة بالحد الأدنى، من الفدرالية الحالية التي تربط بين ولايات متماسكة بالاقتصاد والجيش والتشريع والسياسات الخارجية والتعليم والثقافة.
لدى الأميركيين الآن نظام له رأس واحد يدير النظام الفدرالي من البيت الأبيض بصلاحيات واسعة جداً قوية في الكونغرس والاقتصاد والأمن وكل ما له علاقة بالخارج مع إمكانات لاستصداره قرارات مسبقة، قبل أن تناقشها المجالس التشريعية والولايات، هناك ميزة إضافية وهي أن حكام الولايات الحادية والخمسين بعد إعلان واشنطن ولاية مستقلة يتمتعون بصلاحيات داخل ولاياتهم وينسّقون مع البيت الأبيض والكونغرس.
هذه المميّزات التي أدّت إلى ازدهار نظام أميركيّ مفبرك على قياسات داخلية وعالمية، تتراجع بسرعة مخيفة جراء سياسات داخلية ينتهجها ترامب تؤدي إلى تصدّع نظام فدرالي يرقى إلى أقل من قرنين بقليل من الزمن.
لقد عكس هذا النظام حلاً للخلافات التاريخيّة بين الجنوب الأميركي المحافظ والشمال الأكثر انفتاحاً وبين مناصري الاحتلال الإنجليزي لأميركا وبين المستوطنين الأوروبيين ومعظمهم من ذوي أصول انجلوساكسونية راغبين بالاستقلال والتحرر، كما أوجد حلاً وسطياً لمؤيدي نظام «الرقيق» والمطالبين بإلغائه، مؤسساً لنظام طبقي ذي خلفية تجمع بين الوضع الاقتصادي واللون.
ما هي مظاهر هذا التهديد؟
يعتمد ترامب سياسات داخلية متعمّدة، يريد منها زيادة أحجام مؤيديه للتجديد له لولاية رئاسيّة جديدة في الانتخابات المقبلة في تشرين الثاني المقبل.
لقد عرفت الأجهزة العاملة للتجديد لترامب أن الجسم الانتخابي الأميركي مقسّم حسب الألوان إلى أبيض وأسود وأسمر وأصفر، ومبعثر حسب القوميات بين أوروبيين وأفارقة وعرب وجنسيات إسلامية أخرى ويهود.
أما «دينياً» فهناك إنجيليّون بروتستانت وكاثوليك، ومسلمون ويهود وكثرة من المدنيين الليبراليين.
يشكل الأميركيون إذاً خليطاً دولياً تشاطر الولايات لغتها الأساسية وهي الإنجليزية الأوروبية، ويشكل ذوو الأصول الإنجليزية الأيرلندية، معظم أصحاب اللون الأبيض إلى جانب ذوي الأصول الفرنسية، والألمانية والسكوتلندية والشرق أوروبية.
بذلك وضعت ماكينة ترامب خطة انتخابية له، لم يكونوا على علم بتداعياتها على الاستقرار السياسي الداخلي في الولايات المتحدة، أو كانوا يستصغرون أي ردود فعل عدائية لخطتهم ضمن الاحتمالات المتعددة.
لذلك ابتدأوا بمحاولة كسب اليهود الأميركيين لأنهم كتلة متراصّة تنتمي إلى قمة الرأسمال الأميركي المصرفي وتمسك بوسائل الإعلام.
فذهب ترامب مباشرة إلى قلوبهم بتأييد «إسرائيل» لجهة الإلغاء النهائي للقضية الفلسطينية واستهداف الإسلام لأنه دين متطرّف يكره الغرب وثقافات الانفتاح كما وصفه، مضيفاً بأن الهوة الكبيرة بين الغرب والإسلام غير قابلة للردم.
هذا ما أدّى إلى أكبر تحشد يهودي أميركي معاصر حول رئيس فيدرالي هو ترامب.
وبما أن الجانب الأخر من الخطة يتطلّب إمكانات مالية، فذهب ترامب إلى استغلال الذعر الذي نثره في بلدان الخليج حين استهدف الإسلام وتمكن من انتزاع 600 مليار دولار من ممالكها وإماراتها للاستثمار في تأمين حماية أميركيّة لها. هذا المال المسروق ضخّه ترامب لتخفيف الضرائب عن الفئات البيضاء الفقيرة التي تنتخب عادة الحزب الديمقراطي، مستثيراً أيضاً تأييد بعض الأفارقة واللاتينيين.
إلا أنه وجد نفسه مضطراً إلى خسارة أصوات السود ذوي الأصول الأفريقيّة والصينيّة والإسلاميّة واللاتينيّة لأنه أدرك أن حيازته أصوات الغالبية البيضاء من الأغنياء وأبناء الطبقتين الوسطى والفقيرة، أكثر من كافٍ لربح الانتخابات، فبنى سياسات استعداء لأبناء الطبقات الفقيرة من أصول مكسيكية ولاتينية.
لكن الأكثر خطورة، تجسّد في تركيزه على السود، مستحضراً عنصرية بيضاء جنوبيّة، كانت ولا تزال مصرّة على الإبقاء على نظام الرقيق ولا تزال تمارسه بسياسات احتقار الملوني البشرة وبشكل عملي غير قانوني.
وتبين أن تلكؤ إدارة ترامب لمجابهته وباء الكورونا يعود إلى أن معظم الذي أصيبوا به قبل أشهر عدة في نيويورك ومناطق أخرى هم من السود وملونين آخرين ولاتينيين، وآخرين من الأصول المكسيكية.
هناك أسباب أخرى للنفور الأميركي المتصاعد من الفدرالية، يتعلق برفض ترامب إعلان إنذار وطني فدرالي يشمل كامل الولايات لمكافحة وباء كورونا، فالكثيرون من حكام الولايات يصرّون على الحجر المنزلي والتعامل الحريص لتفاعلات بشرية لا يجب أن تكون كبيرة.
لكن ترامب المذعور من التراجع الاقتصادي في بلاده يريد أن يعود النظام الاقتصادي إلى سابق ذروته بذلك يمنع الإفلاس كما يرى، لكنه يعلم أيضاً أن الطبقات الشعبية والملونين والسود واللاتينيين والصفر والمسلمين هم الأفقر بين الأميركيين، وإذا كانوا مضطرين للعودة إلى الأسواق لكسب معاشاتهم، فإن الأميركيين البيض من الطبقات العليا والوسطى يستطيعون تحجيم حركتهم في الأسواق والعمل إلى أدنى مستوى، بذلك لا يصابون بالكورونا مقابل تفشي هذا الوباء في أوساط فقراء أميركا ومتوسطي الحال بينهم.
هذا ما أنتج صراعاً بين ولايات تؤيد إجراءات الانفتاح الترامبية التي لا تؤيد حتى لبس الكمامات والقفازات، وبين ولايات أخرى لا تزال تدعو إلى الحجر وارتداء السبل الواقية للحد من الوباء والتزام أدنى أنواع التفاعلات الإنتاجيّة. هناك أيضاً صراع ثانٍ بين ولايات متمردة على ترامب وبين البيت الأبيض الترامبي بشكل مباشر، هنا يتلقى الرئيس الأميركي سيلاً من الاتهامات بالأداء العنصري والتطاول على صلاحيات حكام الولايات حتى وصل الأمر بترامب إلى طلب إلغاء الشرطة الأميركية لأنها حسب رأيه لا تعمل شيئاً لقمع التظاهرات المعادية له وأكلافها عالية.
هذا جزء بسيط من سياسات داخلية لترامب تزعزع الفيدرالية التي تربط الأميركيين نحو السعي إلى كونفدرالية قد تؤسس جمهوريات مستقلة ترتبط بتحالفات سطحية.
لذلك يجب الربط بين ما أدّت إليه سياسات ترامب العالمية من تراجع أدوار بلاده في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي وصراعه مع الصين وروسيا وإيران ومناكفاته مع ألمانيا وفرنسا وتركيا، مع تراجع إنتاج النفط وأسعاره وما فعلته كورونا من تجميد للاقتصاد الأميركي.
إن التزامن بين هذه العناصر وتفشي كورونا يهدد بتصدع نظام فدرالي لطالما تباهى به الأميركيون كنموذج للحرص على اهتمامات المكوّنات. إلا أن هناك اعتقاداً يرى بإمكانية المحافظة على الفيدرالية، إذا خسر ترامب في الانتخابات الأميركيّة المقبلة لأن سلفه الديمقراطي كفيل بإعادة تصحيح أخطائه الوطنية والخارجية.
أميركا إلى أين؟!
مصير نظامها الوطني مرتبط برحيل ترامب التي تجزم التوقعات أنه عائد إلى عالم البورصة والعقارات والتلاعب بأموال الأميركيين.