مفاعيل الاغتيال مستمرة ضدّ شعبنا وأمتنا…
كمال نادر
8 تموز 1949 وقعت أكبر جريمة بحقّ الإنسان والوطن ولبنان وبحق فلسطين والأمة وكلّ العالم العربي. لقد تمّ اغتيال أنطون سعاده زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي ومؤسّسه وواضع أسس علم الاجتماع الحديث وفلسفة الأخلاق الوطنية، وأسس الدولة الحديثة العلمانية والمدنية اللاطائفية.
كيف تسلسلت الأحداث حتى وصلت إلى عملية الاغتيال السياسي هذا؟
في 2 اذار 1947 عاد سعاده من المغترب القسري بعد غياب دام 8 سنوات ونيّف عن الوطن وكانت السلطات الانتدابية والمحلية تمانع في عودته وتخشى من الدور الذي يمكن ان يلعبه الحزب بقيادته اذا عاد. عند وصوله الى بيروت جرى له استقبال هائل في حجمه وتنظيمه مما أقلق السلطات اللبنانية فأصدرت بحقه مذكرة توقيف لكنه لم يمتثل لها بل اعتصم في الجبال ومارس نوعاً من العصيان ضدّ التوقيف والسجن، وكان القوميون يحرسونه باستمرار وهو يتنقل بين المناطق الجبلية والقرى الى أن اضطرت السلطات اللبنانية الى سحب مذكرة التوقيف هذه بعد ستة شهور على صدورها واستعاد أنطون سعاده حرية تحركاته فقام بزيارات عديدة إلى مناطق الوطن في لبنان والشام، وكان يعيد تنظيم الحزب ويجري عملية تحضير لصفوفه من أجل مواجهة المشروع اليهودي الذي تقدّم كثيراً على الأرض في فلسطين .
في 29 تشرين الثاني 1947 صدر قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، فاعتبر الزعيم أنّ هذه خطوة خطيرة جداً وستؤدي إلى قيام «دولة إسرائيل»، ولذلك ردّ في اليوم التالي بـ «بلاغ بخصوص فلسطين»، دعا فيه القوميين الى التعبئة العامة للحرب والى فتح سجلات تطوّع للمواطنين الراغبين في القتال من أجل منع سقوط فلسطين بيد اليهود كلياً، وبدأت عملية تدريب واسعة في صفوف الحزب كما أنشأ فرقة الزوبعة بقيادة الأمين مصطفى سليمان للقتال في حيفا ويافا واللد والخضيرة، وهي التي قامت بعمليات عديدة ضدّ العصابات اليهودية مثل الارغون وشتيرن والهاغاناه، وأبلت الإبلاء الحسن في حرب ربيع 1948، وسقط منها عدة شهداء في ما بعد. وكان الزعيم قد اتفق مع قائد جيش الإنقاذ العقيد فوزي القاوقجي على أنه سيمدّ الحزب القومي بالسلاح، ولذلك فعندما بدأت العمليات الحربية في فلسطين توافد القوميون من مناطق الوطن الى صيدا متجهين الى فلسطين ولكن صدر قرار من الجامعة العربية بعدم إعطاء السلاح للقوميين، هنا ظهر انّ العرب يتآمرون على فلسطين وأنهم باعوها ولذلك خسرت الجيوش العربية التي دخلت إلى الأرض الفلسطينية لإنقاذها برغم أنها كانت تحقق فوزاً عسكرياً على اليهود لكن قرارات الملوك والرؤساء العرب أدّت الى توقيف القتال وتراجع هذه الجيوش وترك فلسطين لقمة سائغة بيد عصابات القتل والإجرام اليهودية فارتكبت المجازر وهجرت مئات الألوف من أبناء شعبنا في مشهد مأساوي ما زالت مرارته وقسوته تصفعنا إلى اليوم. لقد تحوّل شعبٌ بكامله إلى مقتول او لاجئ ويائس، وعاش على وعود التحرير، لكنه بات في الخيام والفقر وما زال إلى اليوم .
أدرك انطون سعاده أنّ النكبة وقعت لكنه لم يستسلم بل قرّر أن يخوض الحرب لتحرير الأرض التي اغتصبها اليهود. وبدأ عملية تحضير سرية لصفوف من المقاتلين والضباط تمهيداً لبدء حرب التحرير الشعبية معتمداً على نفسه لأنه لم يعد يثق بالأنظمة العربية .
ويبدو انّ النظام العربي الصهيوني كان يراقب حركة الحزب ويتوجّس منه، إلى أن كان الأول من حزيران سنة 1949 حيث ألقى الزعيم خطاباً في برج البراجنة خلال احتفال حزبي أعلن فيه أنه سيزيل هذه الدولة الغريبة من الوجود بعمل عسكري حربي منظم، وختم خطابه بعبارة خطيرة قال فيها: «هذا ليس آخر جواب نعطيه لليهود. إنّ الجواب الأخير سيكون في ساحة المعركة متى قرّرت القيادة القومية العليا إعلان الحرب لتحرير فلسطين .»
بعد ثلاثة أيام، أيّ في 4 حزيران 1949 جاء وزير خارجة العدو واسمه موشي شاريت أو شرتوك الى دمشق واجتمع مع حاكمها حسني الزعيم ورئيس وزرائه حسن البرازي في فندق بلودان، وقد موّهوا شخصية الوزير اليهودي بأن ألبسوه بدلة مقدّم في الجيش السوري لكنها كانت واسعة عليه وشكله غير مألوف لدى الضباط السوريين ما أثار انتباههم وفضولهم ليعرفوا من هو هذا الضيف الغريب إلى أن وقعت أعينهم على صورة له على غلاف مجلة بريطانية فعرفوه لكنهم كانوا مجبرين على الصمت خوفاً من دكتاتورية حسني الزعيم ومساعده العقيد ابراهيم الحسيني. وهذا ما كشفه مؤخراً ضابط المخابرات سامي جمعة في كتابه «أوراق من دفتر الوطن» .
بعد خمسة أيام من هذه الزيارة، أيّ في 9 حزيران بدأت عملية تصفية الحزب وقتل زعيمه فتمّ افتعال حادثة الجمّيزة في بيروت على شكل اشتباك بين الكتائب والقوميين حول مطبعة «الجيل الجديد» حيث كان سعاده يشرف على طباعة جريدة الحزب مساء ذلك اليوم، وكان مقرّراً أن يُقتل خلال الاشتباك، لكن الخطة لم تنجح، وتتالت عمليات قمع الحزب وملاحقة أعضائه .
وبعملية منظمة غادر الزعيم بيروت إلى عاليه ومنها الى البقاع ومن ثم الى دمشق… ولكن الطوق كان محكماً فالمؤامرة تحيط به. وعده حسني الزعيم بدعمه بالسلاح إذا اراد ان يقوم بعمل ضدّ الحكومة اللبنانية، لكن سعاده كان متحفظاً بالموضوع إلى أن زادت الضغوط على الحزب في لبنان ولم يعد السكوت على أعمال الحكومة اللبنانية ممكناً، وفي 4 تموز 1949 أعلن الثورة القومية الاجتماعية ضدّ النظام الفاسد وتحرك القوميون في لبنان والشام ضدّ بعض المخافر، ولكن الثورة لم تدم أكثر من يومين، إذ ظهر سريعاً انّ حسني الزعيم أوقع سعاده في أحابيل مؤامرة دنيئة. وفي عصر يوم 6 تموز سلمه إلى السلطات اللبنانية بهدف تصفيته .
كان الضباط مكلفين بقتل أنطون سعاده على الطريق بين دمشق والمصنع في وادي الحرير، المنطقة الحدودية، لكنهم لم ينفذوا اللعبة وأوصلوه الى بيروت، وهنا جنّ جنون رياض الضلح فبادر فوراً الى تشكيل محكمة عسكرية باشرت التحقيقات مع الزعيم في الليل وتوالت المحاكمة في نهار 7 تموز وانتهت بحكم الإعدام بعيد ظهر ذلك اليوم، وقد انسحب محامي الدفاع احتجاجاً على طريقة المحاكمة وسرعتها وعدم التزامها بالأصول .
أحيل الزعيم الى سجن الرمل وبدأت الإجراءات لتنفيذ الإعدام فجرى توقيع الوزراء على مرسوم التنفيذ وتوقيع رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية بشارة الخوري، واجتمعت لجنة «العفو» وصدّقت على الحكم، وعند منتصف الليل استدعي الأب الياس البرباري كاهن منطقة المصيطبة على عجل للقيام بالمراسم الدينية، وهو الذي أخبرنا بوقائع تلك الساعات القليلة في مقطوعة خالدة عنوانها «حدثني الكاهن الذي عرفه» صاغها أديبنا الكبير سعيد تقي الدين وتتلى في تموز من كلّ عام .
وهكذا… في الساعات الثلاث الأولى من فجر 8 تموز وقبل بزوغ النهار تمّ تنفيذ جريمة القتل البشعة والرهيبة على رمال شاطئ بيروت وانتهى عمر رجل عظيم غيّر مفاهيم السياسة والأخلاق، وأطلق نهضة عظيمة ومبادئ راقية لو تحققت في ذلك الزمن لكانت بلادنا دولة عظيمة غنية وراقية ولما كنا نتردّى في الأوضاع الزرية والمضطرية والخطيرة التي نعيشها منذ ذلك الوقت الى اليوم .
لم يستسلم القوميون الذين ردّوا بإعدام كلّ من ساهم في هذه الجريمة، وما زال الصراع مستمراً وربما سيطول كثيراً وستكبر التضحيات أكثر…