إلى سعاده في ذكرى استشهاده
كلنا نموت، ولكن قليلين منا من يظفرون بشرف الموت من أجل عقيدة (سعاده).
كالعاشق المتيّم، وقد غاب عنه الحبيب! إكفهرّ حولي الفضاء ودكنت سحب في الأجواء، فساقني قَسَمي إليك لأستسقي جرعة أمل من نبعك الرقراق… ولأغذي نفسي الجائعة من ثمار جنائنك. تُرى، ماذا كان سيحدث لي لولا عشقي لك؟ ومَن كنتُ سأكون لو لم أهتدِ إلى مدرسة نهضتك؟ لا أستطيع الإجابة، ولا تهمّني الإجابة على ما كنتُ سأكون. فها أنذا مشبع بفكرك، مقتنع بتعاليمك، وملتزم بمبادئك التزاماً مطلقاً.
اعتقدوا أنهم قتلوك! لكن روحك بُعِثَت حيةً وتجلت للعلا، حيث أنت الآن وكلّ أوان والى دهر الداهرين! وكانت أكثر الكلمات التي كنت أسمعها في طفولتي، غير دقات قلب أمي، هي «تحيا سورية» يردّدها شقيقي وجمع شباب، عشرات المرات كلّ يوم! ولولا تكرار تلقيني لألفظ كلمات الطفولة المعهودة لكنت نطقت بـ «تحيا سورية»!
أنا مؤمن في وجداني، أنّ كلّ طفل يولد في أمتنا، إذا انعدم من حوله تكرار الكلمات الموروثة ليقلدها، وتُرك حراً لينمو ويتعلم بشكل طبيعي، لكان سورياً قومياً اجتماعياً بالولادة! ولقد أوضحتَ لنا أن ما أتيت به من فلسفة العصر وفكر الزمن الجليّ هو من لدن أمتنا ليس إلا، وقلتها بوضوح تام: «أنا لم آتكم بالخوارق بل بالحقائق الراهنة التي هي أنتم»! أيّ أنّ الحقيقة الراهنة هي سوريتنا وقوميتنا بالأصالة، وطبيعي إذاً، أننا نولد بنفسية مكوّنة من الحقيقة الراهنة، التي حدثتنا عنها! غير أنه بعد ولادتنا، سرعان ما بدأت عملية تلقيننا عبارات حفظها أهلنا عن أهلهم وهؤلاء عن أهلهم هم، وأولئك أيضاً عن جدودهم وجدودهم عن السلف، فنتعلم ما تعلموا، في المجتمع وفي المدرسة، بعملية مركّزة – عن قصد أو غير قصد – تهدف لغسل أدمغتنا لاستبدال «الحقيقة الراهنة» بالتعبئة الملائمة لنزوات الأهل والمجتمع المحيط والمطابقة لغايات أمير الطائفة ـ صاحب الفرانشيز ـ لأنّ أمراء الطوائف بدون استثناء، يعتبرون كلّ طائفة فرانشيز – شركة حصريّة – يملكها متنفذ أو متنفّذون، يعتمدون على عملية «التثقيف» الطائفي في أولى سنيّ الطفولة فنتدرّج على تعلّم الشوائب التي تتراكم في عقول الطائفيين ليقتنعوا بأنّ الذي تعلّموا أن يصفقوا له هو المرجع وهو المنقذ!
أما نحن، أتينا إليك، يا أشرف الشرفاء وأبصر العلماء وأحكم العقلاء، فزرعت فينا قوّة التمرّد على أصحاب الفرنشيزات ورسمت لنا درباً بديلاً عن الطريق المؤدّية إلى حظائر العبودية، فتحرّرت نفوسنا من قيود الباشوات وانتصر فينا «الوجدان القومي»، وهو من أعظم اكتشافاتك العلمية والفلسفية والاجتماعية في هذا العصر، وتَوحّدَ ولاؤنا للأرض التي عليها ومنها ومعها تكوّنت شخصيتنا السورية المميّزة وتماهت نفوسنا في الروحية القومية الاجتماعية وارتقينا إلى عالم «الأمة الفاضلة» التي تصونها مزايا الأخلاق والتفاني. الأمة التي وحّدتَ أبناءها في عصبة الولاء الروحي، الأمة التي اكتشفتَ أنّ كلّ ما فيها خير وكلّ ما هي عليه حقّ وكلّ ما يزيّنها جمال طبيعيّ!
لهذا طلب مني قَسَمي لأقول لك يا زعيمي، بوركت هذه الثروة الهائلة التي وهبتها لسوريانا، والتي نسجتها قيماً ومبادئ سامية ومهرتها بدمائك الطاهرة تحت أجنحة فجر ما زال يشهق أمام عظمتك وقُبيل شفق الثامن من تموز الذي تلوّن من دمائك الى الأبد، ومع نسيمات تطهّرت بآخر نفس من أنفاسك! وكلما عاد تموز ويومه الثامن تخمد أصوات الموج في المتوسط وتتصاعد حبيبات مشرقطات من رمال لامست ركبتيك، تتصاعد لتشعل الفضاء بريقاً ساطعاً يزيّن الكون، وترتعد الدنيا ثلاث عشرة مرة، وكلّ رصاصة رعد يدوّي وسيبقى مدوياً لكي تسمعه وتعيه أجيال لم تولد بعد وتتعلّم أنك أنت الدهر المقبل علماً ومعرفة وإيماناً ونصراً محتوماً، وغيرك هم الماضي المندثر في غياهب عصور الجهل وسراب الهلوسة!
أجدنا اليوم، أكثر من كلّ يوم، بحاجة للعودة إليك وللتواصل معك ولقراءة قَسَمنا مرة خامسة أو عاشرة، لأنّ في العودة إليك نجد بلسماً لجراحنا الروحية ونستمدّ قوة تعزّز مسيرتنا، ولنعترف لك في عليائك، أن لا خلاص لكيانات أمّتنا من الجهل والاقتتال والعبودية والخنوع، ولا إنقاذ من سجون الطائفية والولاءات لأصحاب الفرنشيزات، إلا فُلك الخلاص التي دعوتنا اليها. فسمعنا النداء ونجونا من الغرق المحتوم.
لقد علّمتنا أنّ الدين إيمان بين الإنسان والخالق العظيم، فوقيتنا من التخبّط في مستنقعات الطائفية والكيانية وغذيتنا بعظمة نهضتك وتصميمها لبلوغ قمم النصر، وسنبلغ تلك القمم، حيث سنقف أمامك وقفة عز، وبصوت واحد، لا نشاز فيه، ولا دخل للأديان والمذاهب، بل بالإيمان الثابت في عقولنا وفكرنا وبعزيمة الوجدان القومي، نقف صفاً واحداً، وبصوت واحد، وعلى أنغام «سورية لك السلام سورية أنت الهدى» تعلو هتافاتنا السورية القومية الاجتماعية: تحيا سورية ويحيا سعاده!
هذا هو قسمنا الوجداني وهذا ما حيينا عليه ونموت من أجله، ولا تحيدنا عن طريقه العواصف والأعاصير، زوابعنا وحدها تحدث في الكون هزّات أرضية وبراكين وهي القوة التي ستستمرّ في تغيير مجرى التاريخ!