القوميّون والثامن من تموز والمتّحد المشرقيّ
ناصر قنديل
– ثابتتان كبيرتان لا يمكن لأحد تجاهلهما، الأولى حجم الأثر الوجداني والنفسي والثقافي الذي رسمه استشهاد مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه أنطون سعاده قبل سبعين عاماً ونيفاً، وبقاؤه حدثاً ملحمياً حياً يفضح خيبة وخيانة نظام الملل والطوائف لفكرة دولة السيادة الوطنية منذ تأسيسها حتى اليوم، وارتسام صورة نورانيّة لقامة الزعيم كأيقونة خالصة مصفاة من الفكر والسمو الوجوديّ على الذات لحساب الذوبان في الفكرة وتجسّدها، بصورة أقرب للقداسة لأيقونة نابغة وعبقريّة، ما زادها الزمان إلا لمعاناً كالذهب الخالص، بحيث تصير الذكرى كلما أوغل الزمان بها عميقاً، أشدّ حضوراً وتأثيراً، والثانية حجم الشريحة الواسعة من النخب والناس الذين تثير فيهم هذه الأيام لذكرى استشهاد سعاده مشاعر خاصة، وتستعيد لديهم حضور فكره ومشروعه القومي، وتذكّرهم بحجم ارتباط عقيدته بحزب يجسّدها ونظام يضبط إيقاع الجماعة المؤمنة بها، جاعلاً من هاتين عزاءه الوحيد في ساعة الوداع، ومصدر تفوّقه على جلاديه بقياس التاريخ.
– الذين لا تشوب نظرتهم لحزب سعاده شخصنة مريضة أو عقدة شخصيّة، ينتقدونه بعقلانيّة من موقع تمني أن يكون أوسع انتشاراً وأقوى حضوراً وأعلى صوتاً وأكثر تأثيراً، وهم إذ يأسفون على تحكم العصبيات بمجتمعاتهم، وتخييم التخلف عليها، يدركون أن فكر سعاده لا يزال وحده الجواب الشافي بكليّة مفاهيمه وتكاملها، بصفته تنويراً وحداثة في التفكير يرتكز إلى حفر دؤوب ومثابر لبناء الشخصيّة القوميّة للفرد والمجتمع من ضمن انخراطهما في حركة الصراع بوجوهها المتعدّدة، وليس نزوة عنفية عابرة ضد وجه من وجوه أمراض التخلف، ولأنهم يدركون ذلك ويقيمون حسابات أكلاف الانضواء وجدية مسيرتها، يعلقون الأماني ويوجهون النقد، ماذا لو كان الحزب الذي يحمل لواء عقيدة سعاده وفكره، في مكانة الفعل الأهم على ساحات بلاد المشرق، بما يتيح جعل الخلاص أقرب وأسهل، لذلك فإن هؤلاء يمكن فهمهم وتقبّل نقدهم، وهم رغم صوتهم المليء بمزيج النقد والتمني يتفهمون، وجود حقائق مرّة يفسر بعضَها تعثر هنا وضعف هناك، لكن مع ثبات وإصرار على مواصلة الحفر المثابر في جبل التخلف الجامد بإبرة العقيدة الحية.
– يشهد الذين يقدرون المؤسسة النظاميّة التي يربط بها سعاده أحلامه وأفكاره، والذين ينتقدونها، بحضورها الدائم في ساحات المواجهة، التي رسمها فكر سعاده، وقرابة نصف قرن مضى تشهد للقوميين بموقع ريادي في ساحتي مقاومة الاحتلال ومشاريع التفتيت، وفوقها شهادة بمناقبية القوميين وترفّعهم وإقدامهم، لكن يبقى من أهم ما أنجزه سعاده عبر حزبه، هو أنه في زمن كان مطلوباً من المقاومة أن تحقق انتصاراً لتقول إن هزيمة المحتل وهزيمة التطرف والإرهاب، ممكنة، فتؤسس لنهوض سيتّسع في مواجهة كيان المحتل وأدواته من تطرف وإرهاب، شارك القوميّون من موقع طليعيّ في تقديم هذه المساهمة المعرفية بالدم، إلا أن إنجازهم الذي يتفرّدون به ويحق لهم أن يفاخروا بصدقه، هو أنهم قدموا للمجتمع فرصة التعرف على واقعية وإمكانية وجود كيان اجتماعيّ سياسيّ خالٍ من الطائفية والعصبية، هو مجتمع القوميين أنفسهم، الذي يجيب عن سؤال هل من الممكن تخيّل أفراد غير طائفيين وعلاقات اجتماعية وسياسية لا تمر بالمعبر الطائفي، بنعم قوية، شاهدها هم القوميون أنفسهم، على قاعدة أن دليل الإمكان هو الوقوع، وقد وقع فعلاً أن وجد مجتمع وأفراد، غير طائفيين ولا تمر علاقاتهم الاجتماعية والسياسية عبر معابر الطوائف.
– اليوم، وفي ما تتداعى حدود سايكس بيكو، ويعود المحتلّ الأميركي لمحاولة رسمها بقوة الحصار الذي يسمّيه زوراً بالعقوبات، لمنحه صفة أخلاقية، لارتباط العقوبة بجرم، وهو يدرك أن تداعي حدود سايكس بيكو قد أدى وظيفته لحسابه بفتحها لنمو مشروع كيانات الإرهاب العابرة للحدود، وباتت الخشية من تحوّل التداعي إلى فرصة لإسقاط الحدود بين كيانات المشرق، لنشوء تكامل بينها يخشاه لأنه من موارد قوة الاجتماع السياسيّ الطبيعيّ الذي تمّ فصله بالقوة، ولخوفه من أن تنمو معه روح قومية تعيد الأولوية للصراع مع كيان الاحتلال وتختل به الموازين لصالح خيار المقاومة، وفيما يبدو للقوميين بوضوح أن نهوض التكامل المشرقي هو الرد على التحدي الاقتصادي فوق كونه بعداً بنيوياً في عقيدتهم، فهم مطالبون بأكثر من السعي والدعوة لأشكال مختلفة من هذا التكامل، مطالبون بتكرار الفعل الذي أدوه على مسرح التاريخ، كمثال لكيان عابر للطوائف ومترفع على العصبيات، بأن يؤدوا على مسرح الجغرافيا دوراً مماثلاً، باستيلاد كيانات اقتصادية اجتماعية ثقافية عابرة لحدود سايكس