الإنترنت… من خدمة إلى سلطة؟
د. عصام نعمان _
الإنترنت، حاليّاً، خدمة. لاستعمالها يتوجّب على المرء ان يدفع رسماً للجهة التي تمتلك حقّ توزيعها. منذ أيام بشّرتنا إحدى وسائل الإعلام بأنّ الإنترنت سيغدو مجانياً، أيّ متاحاً للعموم كالنور والهواء.
منع الهواء عن الإنسان يمنع التنفس ويتسبّب بالموت. منعت الشرطة في أميركا الهواء عن جورج فلويد فقضى مختنقاً، وتظاهر ملايين الناس احتجاجاً. لماذا؟ لأنّ الهواء شرط للحياة. هل يصبح الإنترنت في قابل الايام مرادفاً للهواء والنور، ايّ شرطاً للحياة؟
اكثر من ذلك: الإنترنت يتحوّل من خدمة الى سلطة. بحيازته حق استعمال الانترنت متى يشاء وفي أيّ زمان ومكان يصبح الإنسان اكثر قوّة ونفوذاً، وبالتالي اكثر سلطة. كان بعض الثوار اليساريين يهتفون “كل السلطة للشعب”. مع مجانية الإنترنت وتعميمه وشموليته يمتلك كل الناس السلطة دونما ثورة.
ما تداعيات وانعكاسات هذه الظاهرة المستجدّة؟
إن تداعياتها وانعكاساتها كثيرة، وهي تتجلّى وتشمل كل مجالات الحياة. لعل مجالها الأكثر عمومية وتأثيراً في حياة الناس ما يتصل بممارسة السلطة، ايّ بالحكم وآليته الأكثر شيوعاً ورسوخاً: الديمقراطية.
الديمقراطية في معناها ومبناها المتعارف عليه قوامها إجراء انتخابات لتمكين الشعب من اختيار ممثليه (نوابه) في مجلس (برلمان) تنبثق منه حكومة تبقى في السلطة طالما هي حائزة ثقة غالبية أعضائه.
لا يُنتخب النواب الى أبد الدهر بل لمدة معينة، لعلها في غالبية الدول ذات الأنظمة الديمقراطية لا تتجاوز الخمس سنوات. والحكمة من تحديد مدة للمجالس النيابية هي لانتخاب ممثلي الشعب في زمان وظروف معينة، سياسية واجتماعية، لها حاجاتها ومتطلباتها. ولأن الظروف تتحوّل وتتبدّل فإن حاجات الناس ومتطلباتهم، ناهيك عن آمالهم وأحلامهم، تتبدّل وتتغيّر أيضاً.
كثيراً ما يحدث أن الظروف وبالتالي الحاجات والمطالب تتبدل اثناء المدة القانونية المقررة لمجلس النواب ما يؤدي الى نشوء شعور، وأحياناً قناعة راسخة، لدى جمهور الناخبين بأن النواب الذين انتخبوهم لا يعبّرون عن إرادتهم ولا عن حاجاتهم ومطالبهم المستجدة ما يؤدي تالياً الى المطالبة بإجراء انتخابات جديدة او يؤدي الى اندلاع احتجاجات وربما ثورة اذا امتنعت المنظومة الحاكمة عن إجراء الانتخابات المطلوبة.
ما صلة الإنترنت بهذه الظاهرة المستجدّة؟
من الثابت أن الإنترنت عزّز شيوع وسائل التواصل الاجتماعي وفعاليتها. أكثر من ذلك: الإنترنت ودوره الواسع في شيوع وسائل التواصل الاجتماعي يجعل الإنسان، وبالتالي الناخب، أكثر قوة وسلطة وتأثيراً وحضوراً. ذلك بدوره قد يجعل الاستقرار السياسي ورسوخ المنظومة الحاكمة في السلطة مضطربين وقابلين للتغيير.
ليس أدل على دور وسائل التواصل الاجتماعي وفعاليتها من ظاهرة اندلاع انتفاضة 17 تشرين الاول / اكتوبر 2019 في لبنان عموماً. ذلك أن أحداً لم يتخيّل ان تنبثق من عمق المجتمع اللبناني التعددي المنشغل دائماً بعصبياته الطائفية والمذهبية انتفاضةٌ شعبية عابرة للطوائف والمناطق وقادرة على رفع شعارات موحّدة متفق عليها.
صحيح أن هذه الانتفاضة تصدّعت وتراخت وفقدت زخمها، لكن ظاهرات وانتفاضات مماثلة تنبثق وتتوالد حالياً في شتى دول الغرب والشرق وتترك آثاراً ومفاعيل عميقة في حاضر المنظومات الحاكمة.
هذه الآثار والمفاعيل تجعل من الديمقراطية نظاماً متزعزعاً اذ يصبح محكوماً بأن يواجه خيارين متناقضين: الرضوخ الى مطالب الناس المنتفضين والمطالبين بإجراء انتخابات جديدة كلما تغيّرت الظروف ونشأت حاجات ومطالب جديدة، أو رفض إجراء انتخابات والتمسك بالسلطة حتى لو ادى ذلك الى الاصطدام بالناس الساخطين والانزلاق الى الاستبداد وإراقة الدماء.
ذلك يطرح بدوره سؤالاً: كيف يكون الخروج من معضلة الانشغال بانتخابات شبه متواصلة بسبب تبدّل الظروف وأمزجة الناس وحاجاتهم ومطالبهم، او الانزلاق الى حالة الاستبداد والتمسك بالسلطة مهما كان الثمن؟
تراودني، في هذا السياق، فكرتان.
الاولى، إرساء قاعدة استفتاء الشعب دورياً او عندما تلح ظروف وحاجات استثنائية يكون مجلس النواب جراءها ملزماً بقبول نتيجة الاستفتاء وتكريسها في تشريعات وأنظمة نافذة.
الثانية، أن يُصار إلى اختيار مجموعة من كبار الحكماء العلماء من عشرة مجالات رئيسة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية وذلك في استفتاء شعبي عام يجري كل خمس سنوات، ويؤلّف هؤلاء الحكماء بمجرد اختيارهم مجلساً للحكم والرعاية مشرفاً على تكوين وادارة السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، وعلى إدارة مؤسسات البلاد والعباد وفق أحكام الدستور والقوانين النافذة.
باختصار، الديمقراطية التقليدية في أزمة، وكذلك إيجاد الحل المناسب في زمن الإنترنت الذي جعل من المواطن، ناهيك عن اجتماع المواطنين، سلطةً لعلها أقوى السلطات.
*نائب ووزير سابق