رؤساء لبنان مدعوّون للردّ على بومبيو!
} د. وفيق إبراهيم
عندما تكشف السياسة الأميركية علناً عن تطور طلباتها في لبنان السياسي، بشقّيهِ الداخلي وعلاقاته الخارجية بما يقضي على أي استقلالية له مهما كانت صغيرة، فهذا أمر لا يجب أن يمّر بصمت رئاسي لبناني.
صحيح أن لبنان يخضع للنفوذ الأميركي منذ أكثر من ستة عقود، لكن الأوامر الأميركية كانت محدودة وذات طابع دبلوماسي يجنح للكتمان، بما كان يحفظ ظاهرياً استقلالاً شديد الالتباس لم يمنع الأميركيين من وضع بلاد الأرز في قفص كبير من دون كبير عناء، فكانت تبدو كطفل يربُّت «عمّه الأميركي» على رقبته قائلاً: «برافو» بلغة فرنسية.
هذه المرحلة المتطاولة حريرياً حتى 2018 أفقرت لبنان رغم إصرار كبار المحللين في الإعلام السفاراتي أنها كانت «مرحلة الحضارة وثقافة الحرف»، والدليل أنها دمرت الاقتصاد وفجّرت السياسة بحدها الأدنى الوطني وسطت على 250 مليار دولار من التفاعلات ومئة مليار من الديون وقطعت الكهربا والأمن ومراكز العمل والاستقرار وأنتجت بطالة تضرب أكثر من 50 في المئة من اللبنانيين، وهي في حركة تصاعد دائمة تدفع نحو تفجير الانسجام الوطني لمصلحة صعود الطائفية والمذهبية. هذا هو لبنان نتاج مرحلة السيطرة الأميركية الأوروبية الخليجية. فما الجديد الآن؟
المستجدات تنحصر في إعلان أميركي واضح كشف بالمفضوح ما تريده سياساتهم من لبنان.
وزير الخارجية بومبيو قال في وقاحة سياسية نادرة إنهم يعملون على تغيير الحكومة اللبنانية الحالية وإعادة تشكيل أخرى جديدة، بشكل لن يكون حزب الله من مكوّناتها، مصراً على تجريده من سلاحه وإقفال طرقه ومعابره نحو سوريا، مضيفاً بأنه ممنوع على لبنان استيراد الكهرباء من سوريا والنفط ومشتقاته من إيران.
السؤال الأول الذي يقفز إلى أذهان الناس هو ماذا أبقى بومبيو لدولة لبنان كي «تتسلى به»؟
وتوهم اللبنانيين أنها مثل «بلدية بيروت الممتازة» تعمل من أجلهم. هذا الحدّ من الإمساك بالدولة لا يكفي الأميركيين.
فتبين أنهم يريدون أيضاً الجيش اللبناني الذي أشاد بمناقبيته قائد المنطقة الوسطى في الجيش الأميركي كينيث ماكنيزي الذي وصل إلى لبنان أمس، واستقبلته تظاهرات شعبية قرب مطار بيروت جعلته يفرّ بمروحية إلى اليرزه حيث استقبله قائد الجيش جوزيف عون وربعه في الأركان و»أخوان الصفا».
بذلك يستكمل الأميركيون وضع يدهم على الحكومة الجديدة والجيش وقوى الأمن الداخلي.
والمساعدات الاقتصادية من الصناديق والاتجاهات مع حق حظر أي استيراد من دول ليس لهم معها علاقات جيدة. لذلك يحق للمواطنين سؤال رؤساء البلاد إذا كان في هذا «الإطباق الأميركي» الكامل على إدارة بلدهم يناسبهم، أم يدفع بهم نحو تقاعد العجزة؟
وماذا هم فاعلون؟ خصوصاً أن بلدهم تحوّل أكثر من ولاية أميركية إلى ما يشبه معتقلاً في «غوانتامو» يديره رقيب يلعب دور بلطجي متنمّر لإرهاب المساجين البؤساء.
هذا الكلام ليس دعوة للرؤساء لأداء دور بطل وهمي له القوة على الصراخ فقط، فلبنان محدود الإمكانات، سرقته طبقته السياسية، ويبحث في زوايا الأرض بكامل اتجاهاتها عن معين، ما يدفع نحو تبني سياسات «التدبّر» وفتح اتجاهات مفيدة، لأن المهم الآن، هو إنقاذ وطن مرمي في حفرة وليس تسجيل مواقف والدفع إلى الانهيار على طريقة جعجع والكتائب، والفيلسوف الصاعد سعد الحريري والمرشد وليد جنبلاط.
فكل من يستمع إلى مواعظ هذه الفئة من السياسيين يشعر وكأن لا علاقة لهم بمرحلة حريريّة عمرها ثلاثون عاماً، أتت إلى لبنان بدفع أميركي وخليجي لتعميم الازدهار، فجعلت من معارضي المرحلة المارونية يترحّمون عليها.
ما العمل اليوم؟
الرؤساء الثلاثة هم إدارة الدولة بجوانبها التنفيذية التشريعية، إنما لكل رئيس منهم ظروفه السياسية في طائفته ومنطقته والأحزاب الموالية.
فالرئيس ميشال عون جَسور وصريح، لكنه لا يجد في الكنيسة المارونيّة ما يشجعه على إطلاق تصريح يرفض ما ورد في تصريحات بومبيو الأخيرة وماكينزي وفرانكلين، كما أن حزبه التيار الوطني الحر متصادم مع كتل مسيحية كبيرة هي جزء حيوي من النفوذ الأميركي. وهذا يؤكد صعوبة بروز أي انتقاد عوني للأميركيين، لأنه يعطي بذلك أفرقاء كثيرين متنوعين طائفياً فرصة اتهامه بمهاجمة الثقافة الغربية والاتجاه شرقاً نحو سورية وإيران والصين وصولاً إلى فنزويلا.
هذا لا يعني أن فرص الرئيس عون بالرد معدومة، وقد تظهر على شكل تأكيد على حق لبنان بالبحث عن مصادر متنوعة لضبط أزمته الاقتصادية المتأججة.
لجهة رئيس الحكومة حسان دياب، فقد لا يتورع عن إطلاق رشقات من دون تسمية المستهدف، لأنه يجد مؤسسات طائفته الدينية وأحزابها السياسية وامتداداتها الخليجية، معادية له بشكل بنيوي، الأمر الذي يقّلص من إمكانية استعماله كامل طاقاته في الرد على بومبيو الذي كشف أنه يعمل على إسقاط حكومة دياب. هذا التحليل يضعنا أمام الإقرار بأهميات رئيس المجلس النيابي نبيه بري الذي يتمتع بظروف وطنية وسياسية وشعبية، تجعله قادراً على عكس آلام اللبنانيين واستيلاد دولتهم من سياسات القهر التي تتعرّض لها من النفوذ الأميركي.
فالرئيس بري يستمد قوته التشريعية من عناصر عدة، أولها هو حجم كتلته وتاريخه السياسي المديد، وأوزان حلفائه في حزب الله مع قوى أخرى راجحة، وله في طائفته موقع أساسي مع علاقات عميقة بالإفتاء الممتاز والمجلس الإسلامي الشيعي وكامل الاتجاهات الدينية في طائفته والطوائف الأخرى.
وبري واسع العلاقات من سوريا إلى إيران والعراق وأوروبا، وهذا أكثر من كافٍ لأن يكون ناطقاً غير مكلف إنما في إطار الواجب الوطني لأن يطلق إعلاناً وطنياً حقيقياً على غير شاكلة إعلان بعبدا، يؤكد فيه على استقلال لبنان، وحرصه على بناء علاقات مع الشرق والغرب إنما بأولوية المسارعة لتأمين احتياجات لبنان من أي موقع ممكن باستثناء الكيان الإسرائيلي. ولن ينسى الرئيس بري التأكيد على تمسك لبنان بحكومته وحقه في موارده من الغاز والنفط والسياسة وانتقاء الأصدقاء لتشابك العلاقات الاقتصادية والاستراتيجية. هذا هو الرد الممكن في هذا الزمن الرديء والصعب، ومهما بلغت متونه، فهناك ضرورة للتمسك بشيء من الاستقلالية لدولة أنهكها الغرب والخليج بدعمهما لطبقتهما السياسية ويحاولان اليوم إعادة إنتاجها بشروطهم، وهذا أمر لن يرضى به لا الرئيس بري ولا حلفاؤه.