الانسحاب مبدأ أميركيّ استباقيّ
} سماهر الخطيب
تتأرجح الأحداث الدولية وتتشابك المفاهيم في عالم متغير تغيّرت معه وسائل الحرب وأدواتها وتطورت بمفاهيمها حتى اختلط السلم بالحرب وبات التفريق بينهما صعباً. فإذا كانت الدول تحيا في سلم حقيقي بلا منازعات، فلماذا إذاً تعاني الشعوب ما تعانيه؟! رغم عدم نشوب الحرب بمفهومها التقليدي في وسط هذا العالم المتغير والذي يشهد صعود دول ومنافستها للقطب الأميركي. وبدا واضحاً أنّ عهد القطب الواحد يتلفظ أنفاسه الأخيرة ليسلّم دفة القيادة لعالم متعدد الأقطاب لا يقبل بانتهاك السيادة ولا أنّ تكون الدول فيه مفعولاً به.
وفي العودة إلى القطب الواحد الذي دام لأكثر من عقود متتالية فقد فيها مبدأ التوازن الدولي والتعايش السلمي وترسخ مبدأ الغلبة للأقوى وسط فوضوية المجتمع الدولي التي أوجدتها سياسات الولايات المتحدة على مرّ عقود متتالية. ولم يشهد خلال كل هذه الفترة الزمنيّة أن تمّ توقيع اتفاقية عالمية أو عقد اجتماعيّ يحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، كان دعاته «هوبز وروسو ولوك»، فلم تجتمع الدول كأشخاص معنويين في المجتمع الدولي للتنازل عن بعض حقوقهم مقابل أن تلتزم الحاكمة بأمر «العم سام» بمصيرهم بل كانت حاكمة بحكم الأمر الواقع ولم تجد من ينافسها في مقابل تجاوزها للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة ومنظماتها والمعاهدات التي التزمت فيها الدول وقد وقعت في عهد سابق لعهد إمبراطوريتها.
في الحديث عن العهد السابق والذي عنون بالتوازن الدولي أو مبدأ الأمن الجماعي وتأسيس عصبة الأمم ومن ثم منظمة الأمم المتحدة والمحاكم التابعة لها وكذلك المنظمات الخاصة بها وتفعيل قوانينها على جميع الدول بعد أن عانت ما عانته من حروب واستعمارات وغيرها.
فيما تغيّرت الصورة الدولية اليوم وبمجيء مدير البيت الأبيض تكشفت مضامينها فبات مبدأه الحاكم به مبدأ الانسحاب إذ أخرج ترامب بلاده من كل أشكال الاتفاقيات والمؤسسات المتعددة الأطراف في الخارج باسم العمل بمفردها.
ولا ينفصل مبدأ الانسحاب عن شعار «أميركا أولاً» لأنّ ما وراء الانسحاب تعنّت أميركي لعنجهية إمبراطوريته. فصناع القرار في أميركا ليسوا ببعيدين عن مجريات الساحة الدولية وليس تعنّت العظمة إنما عن دراية بما يحدث وأنّ المقبل لن يكون كما اليوم والحال يتغير فلا بدّ من الجلوس على طاولة جديدة ومفاوضين جدد وشروط جديدة أرادت أميركا بانسحابها ألا تكن مكبّلة بالرغم من أنّها لم تتأثر بتلك «الأصفاد» إنما الزمان تغير وحين كانت تلف وتدور حول القانون الدولي كانت الراعية للمجتمع الدولي لكن اليوم هناك قوى صاعدة وقوى منافسة فلا بدّ من الاستعداد للمرحلة الجديدة التي بدأت ترتسم ملامحها.
وفي العودة إلى المبادئ الأميركية فنذكر مبادئ وولسون الأربعة عشر والتي كانت بذرة تأسيس عصبة الأمم، وعقيدة ترومان مفادها تقديم المساعدة إلى البلدان «المهددة» من قبل الشيوعية. ومبدأ كارتر مفاده العزم على الدفاع عن الخليج العربي، ومبدأ ريغان مفاده دعم «مقاتلي الحرية» ضد الأنظمة المدعومة من الاتحاد السوفياتي. وفي كل حالة، كان الهدف الأسمى المصلحة الأميركية في مواجهة كل منافس لوجودها.
بالتالي فإنّ مبدأ الانسحاب لا يقل أهمية عن مبادئ أسلافه. فقد أخرج البلاد من كل أشكال الاتفاقات والمؤسسات المتعددة الأطراف في الخارج باسم العمل بمفردها والهدف الخفيّ هو رؤيتها للتغيرات الحاصلة واقتناعها بوجوب التحضّر لمرحلة عالمية جديدة تتخلى فيها عن التزاماتها وتتهيأ لامتلاك أقوى الأوراق التي تخوّلها التفاوض فيها.
في أحد إجراءاته الأولية، سحب ترامب بلاده من الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP)، وهي اتفاقية تجارية تضم اثنتي عشرة دولة تمثل حوالى 40 بالمئة من الاقتصاد العالمي. كان الدافع وراءها وضع قواعد طموحة للتجارة التي يتعين على الصين الوفاء بها أو المخاطرة بالتخلّف عن الركب..
وفي الآونة الأخيرة، انسحبت إدارة ترامب من منظمة الصحة العالمية وسط وباء عالمي. وقبل أيام أعلنت مغادرة معاهدة الأجواء المفتوحة، وهي اتفاقية بين ثلاثين دولة تسمح برحلات الاستطلاع فوق أراضي بعضها البعض من أجل تقليل عدم اليقين وفرصة سوء التقدير.
وهناك مجموعة من الانسحابات الأخرى، بما في ذلك اتفاق باريس للمناخ، والاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، ومعاهدة القوى النووية متوسطة المدى (INF)، واليونيسكو، ومجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.
في اعتقاد ترامب أن الانسحاب يزيد من الخيارات الأميركية ويعطيه رافعة في المفاوضات المستقبلية. ويتضح جليّاً أن إدارة ترامب تسعى لإرسال الرسائل السياسية عبر الانسحاب، رغم معرفتها بأنّ سعر هذه الرسائل مرتفع. على سبيل المثال، أدى الانسحاب من ميثاق باريس إلى نفور العديد من الحلفاء الذين يرون أن تغير المناخ يمثل تحدياً وجودياً.
كما يُضيف الانسحاب التسلسلي من المعاهدات جرعة ثقيلة من عدم القدرة على التنبؤ وعدم الموثوقية للسياسة الخارجية الأميركية.
والجرعة الثقيلة ليست نتيجة للانسحاب من المعاهدات والمنظمات إنما هناك انسحاب من نوع آخر، على غرار سحب الدعم العسكري للأكراد في سورية وربما للحكومة في أفغانستان، يفاقم هذا التصور. فبات الأصدقاء والحلفاء، يتساءلون عن قرارهم بوضع أمنهم في الأيدي الأميركية.
حتى باتت الدعوات الأوروبية تعنون باعتماد الأوروبيين على أنفسهم أكتر وسابقاً بإيجاد جيش أوروبي خاص للأمن الأوروبي ناهيك عن الانتقادات الكثيرة التي تعرّضت لها الإدارة الأميركية على لسان صناع القرار الأوروبيين فمن دون الاعتماد على الولايات المتحدة، يواجه الحلفاء خيار الاستناد إلى جار قوي، أو بناء قدراتهم العسكرية الخاصة، أو كليهما. وكلتا النتيجتين تعملان ضدّ المصالح الأميركية في مسعى منها إلى تطبيق مبدأ الانسحاب تخلق الإدارة الأميركية فرصاً للمنافسين، مثل الصين، وروسيا للحصول على مكانة عالمية على النفقة الأميركية..
وربما لو كان صناع القرار الأميركي أكثر يقظة لما قاموا بالانسحاب من جانب واحد وتحميل الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى المسؤولية عبر مزاعم الانتهاك للاتفاق، وكان من الممكن أن يكون الأمر مختلفاً جداً لو تشاورت مع حلفائها وطالبت منظمة الصحة العالمية بمجموعة من الإصلاحات، موضحة أنه إذا لم يتم تنفيذها، فستقوم جميع البلدان بتمويل منظمة جديدة أكثر قدرة على مواجهة التحديات الصحية العالمية.
وفي حالة إيران، قوّض الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي احتمالات انضمام فرنسا وبريطانيا وألمانيا إلى نهج كان من شأنه أن يمدد الأحكام الحاسمة لاتفاقية 2015 في مقابل الرفع الانتقائي للعقوبات. إنما ما قامت به الولايات المتحدة هو عزل نفسها في خطأ استراتيجي يُضاف إلى قائمة أخطائها.
حتى الآن، على الأقل، جرت الرياح بما لا تشتهي السفن الأميركية، وبالرغم من التفاؤل الأميركي أن الانسحاب مهّد الطريق لشيء أفضل. إنما الحقيقة على العكس من ذلك، فمبدأ الانسحاب، ليس كأسلافه من المبادئ الأميركية أراده راعيه خطوة استباقيّة لعالم جديد إنما أدى قبل دخول هذا العالم الجديد إلى تراجع النفوذ الأميركي وانغلاقه وتعرّضه للكثير من الانتقادات قد تفقده ما أراد من أوراق القوة..