لا خوف على الجامعة!
زياد كاج*
تئن الجامعة هذه الأيام وتتألم من جراح عميقة لم تُصَب بها من قبل. تلهث، تكاد تتعثر، لكنها لا ولن تقع. ومعها يتألم ناسها؛ يخافون عليها وعلى أنفسهم. بينهما صحبة صانع الفخار وفخاراته. فالجامعة الجامعة تُشبه أشجار حرمها التي أتقنت اللعب والرقص مع الرياح الشديدة ولا انكسار. جذورها تكاد تصافح جارها البحر والمشاة على الكورنيش. قد تفقد بعض أغصانها، قد يترك الزمن على جسدها المعمر بعض الآثار، لكنها تبقى واقفة شامخة عزيزة. ناسها ورود حضروا فيها من بساتين مختلفة؛ أّلفت بينهم فتقاربت القلوب وصارت عائلة واحدة — ضمن الأسوار.
يحلو للبعض من الخارج اليوم — شماتةً — أن يشبه وضعها الحالي بسفينة «تيتانيك» العملاقة التي غرقت في شمال الأطلسي في 15 نيسان 1912 وعلى متنها 2224 راكباً غرق منهم أكثر من 1500، رغم تلقيها تحذيرات من الجبال الجليدية. اعتُبرت أضخم كارثة بحرية في زمن السلم وأدت الكارثة البحرية الى إنشاء الاتفاقية الدولية لسلامة الحياة في البحر سنة 1914. السفينة التي أنقذت بقية الركاب من المياه الباردة والموت المحتّم كان اسمها «كارباثيا»؛ لبت نداءات الاستغاثة بعد ساعة ونصف وتمكنت من إنقاذ 705 ركاب. لكنها عادت وغرقت سنة 1918 بطوربيد غواصة المانية خلال الحرب العالمية الأولى. غريب كيف يتذكر التاريخ المستغيث ولا يتذكّر المنقذ!
الشمّاتون هم أنفسهم من استفادوا من خيراتها؛ يتحدثون عن «سوسة» الفساد في بعض أشجارها؛ وهم كانوا من الزارعين والحاصدين معاً. الجامعة ليست جزيرة معزولة عن المحيط.
الجامعة الأميركية في بيروت ليست «التيتانيك» المتهورة رغم أن المؤسسين الأوائل أتوا من البحر الى رأس بيروت فشاهدوا ناراً على تلة كما تقول الرواية. «السفينة» بنيت من غرور العظمة لتكسر هيبة المحيط. أما الجامعة فتأسست بتواضع الحكمة والمعرفة على تراب للتحوّل مع تقلبات الزمن الى أفضل مصنع للعقول في المنطقة.
الفكرة أطلقها W M Thomas في نيويورك سنة 1862 لتتبلور سنة 1866 تحت اسم: «الكلية السورية البروتستانتية» برئاسة القس Daniel Bliss بعد انطلاقتها في مجموعة مبانٍ مستأجرة متواضعة في زقاق البلاط في بيروت وبحضور 19 طالباَ. كانت أول المدارس في الشرق الأوسط التي تستقبل إناثاً في صفوفها.
الجامعة اليوم تئن ألماً من كتلة من الأزمات. هبّت عليها من كل صوب وفي الوقت نفسه: جائحة الكورونا العالمية وتداعياتها الصحية والاجتماعية والاقتصادية، التوترات الأمنية والسياسية في البلد والمنطقة، أزمة ارتفاع الدولار محلياً، انفجار وتشظي ظاهرة الفساد ونشره «على صنوبر بيروت وغيره»، وظهور الأزمات الاجتماعية أمام طبقة من الشباب المتعلم والمحبط والفاقد للأمل والأفق. هي أمام «جبل من نار» وليس أمام «جبل جليدي».
لن تسقط جامعة نقش على مدخلها «فلتكن لهم حياة ولتكن حياة أفضل» من الإنجيل المقدس. لن تتعثر مؤسسة علّم فيها الزعيم أنطون سعاده مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي لا يزال ينشر قوة المعرفة ويشعّ بنور النهضة. جامعة عايشها الفيلسوف شارل مالك الذي كان من الموقعين على ميثاق الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو سنة 1945؛ وعرفها أيضاً المعلم بطرس البستاني، الشاعر خليل حاوي، المفكر قسطنطين زريق، الدكتور كمال الصليبي، وهشام شرابي، والشعراء يعقوب الصروف وعمر أبو ريشة وعمر فروخ والأديبة غادة السمان والشاعر كمال ناصر والصحافي غسان تويني.
كثر دخلوا من بوابتها الرئيسية بعقول شابة طرية وخرجوا بوعي وثقافة شكلت جسراً بين شرق وغرب: الرئيس سليم الحص، والنائب وليد جنبلاط، عادل عسيران، ايلي سالم، نزيه البزري، وديع حداد، جورج حبش، حنان عشراوي، عبد القادر الحسيني، عالم الاجتماع العراقيّ علي الورديّ، سعدون حمادي (رئيس وزراء العراق سابقاَ)، الشاعر إبراهيم طوقان، محمد جابر الأنصاري (مفكر بحريني)، المعمارية زها حديد، علي أكبر صالحي (رئيس منظمة الطاقة الذرية الايرانية)، عبد الله جمعة (رئيس أرامكو السعودية السابق). وأيضاً: أشرف غاني رئيس أفغانستان 2014، عبد الله يمين عبد القيوم رئيس جمهورية جزر المالديف، ريم عكرة مصمّمة الأزياء العالميّة، سلام فياض رئيس سابق للحكومة الفلسطينية، كريمة عبود وهي أول مصورة محترفة في العالم العربي، أمل مدللي سفيرة لبنان في الأمم المتحدة، Charles Hostler سفير أميركي سابق وجورج حلو عالم في وكالة NASA الفضائية.
أنا في ومع الجامعة منذ 35 سنة. أمضيت منها 15 سنة في المستشفى بصفة Clerk (الغريب في الأمر أن البعض كان يلفظها Clark.. وهي ماركة أحذية انكليزيّة معروفة بجودتها) وسط الأطباء والمرضى والممرضات وأنا أدرس الإعلام في الجامعة اللبنانية. ثم أمضيت 12 سنة في المكتبة الطبية مع السيدة هيلدا نصار، مديرة المكتبة، وسط الكتب الطبية الثقيلة الوزن والمجلات وطلاب وطالبات الطب والتمريض وكل ما له علاقة باختصاص الصحة. ثم الثالثة ثابتة كانت في مكتبة «يافت» في الحرم، حيث لا أزال أعمل اليوم منذ 8 سنوات بإدارة الدكتور لقمان محو.
ماذا علمتني الجامعة خلال 35 سنة؟ سنوات مرّت كأنها لحظات! كأنها وميض رعد وخير المطر كثير.
في المستشفى اكتشفت أن الإنسان «يتعرى» عندما يدخلها مريضاً، ليتحول الى مخلوق خائف «متعلق بحبال الهواء» وطبيبه والممرضات، يعد الساعات والدقائق للعودة الى البيت الدافئ والحنون. المستشفى ليست فقط مكاناً للعلاج، بل هي أيضاَ، أفضل الأمكنة لاكتشاف معدن البشر وجوهرهم بغض النظر عن دياناتهم أو البلد أو المنطقة التي أتوا منها. علّمتني المستشفى أن بعض الأغنياء هم أكرم الناس خلقاً؛ وأن بعض الفقراء هم أفقر الناس أخلاقاً. كانت لي مخالطة وصداقة مع أطباء وممرضات كثر تلقنت منهم أشرف الدروس في الإنسانية والتضحية من أجل راحة وشفاء المريض ومواساة أهل الفقيد.
في المكتبة الطبية شعرت أنني تراجعت قليلاً الى الخطوط الورائية على جبهة الطب الشرسة والصعبة والتي لم أشعر يوماً فيها بالانتماء الثقافي والفكري. كانت غربتي الكبرى ودرسي القاسي والمفيد في الوقت نفسه. فرحت لرؤية طلاب وطالبات الطب وهم في مرحلة «الكلية الحربية الطبية». التراتبية في مهنة الطب تشبه الى حد ما التراتبية العسكرية. أتوا من أفضل المدارس الى أفضل جامعة تخولهم الى دخول أفضل الجامعات في العالم. الكتب على مكتبي كثيرة وثقيلة. لا أفهم منها سوى العناوين. سألت كثيراً مديرتي الى أن صارت معلمتي. تبين لاحقاً أننا ولدنا في اليوم نفسه ومعنا صدام حسين! تحوّل الأمر الى ما يشبه النكتة وصارت مديرتي تحتفل بعيدها والزملاء في المكتبة. صغر عالمي وأصبحنا عائلة واحدة. خبرتي في المكتبة الطبية «صالحتني» مع جهاز الكومبيوتر ومع عالم الإنترنت. «لا تكسر الجرة مع أحد.. خاصة مع من هم أعلى منك في الوظيفة». هذا ما استخلصته بعد 12 سنة لم أرَ فيها كيس مصل ولا سماعة طبيب ولم أسمع أحداً يبكي على وفاة عزيز. تحول الطب الى أحرف في كتب وعلى الشاشة. الدم صار حبراً.
كأن الزمن كان يقودني الى الوراء. في مكتبة «يافت» وجدت نفسي قرب نفسي. انفتحت شهيتي على الكتب العربية غير مصدق.. كصائم يفتح علبة البقلاوة في أول يوم عيد الفطر. «يا الله».. أخيراً، كتب عربية وإنكليزية في الأدب والتاريخ والسياسة والاقتصاد وعلم النفس.. وأنا القارئ على طريقة «الجنيناتي»: من كل شتلة وردة. أحبّ التنوع وأحب المعرفة المتنوعة المصادر. لا أحفر عميقاً.. فالأفق ملعبي. هذه السنوات الثماني من عمري برفقة – ولا أقول في — الجامعة كانت الأغنى والأعز على قلبي. وجدتني في المكان المناسب. لقد أثمرت ثقافتي العامة وتخصصي في الإعلام والأدب الإنكليزي في مكتبة «يافت». خلال فترة الحجر المنزلي في ظل جائحة الكورونا، طلبت منا الإدارة البقاء والعمل من البيت. كدتُ أنفجر. اشتقت للجامعة وللمكتب وللزملاء؛ للروتين الذي كنت أمقته. أنا لا أقول إنني ذاهب الى العمل، بل الى البيت. الجامعة بيتنا أكثر مما هي مجرد مكان بلا روح. لو قدر لحجارتها لأشجارها لأبنيتها ومقاعدها أن تتكلم.. لفعلت.
مدرسة حياتي المهنية AUB علمتني أموراً لا تدرس على مقاعد الدراسة. اكتشفت أن كلمتي « Thank You» و« Sorry» هما من أفضل الكلمات ولا تقللان من قيمة الإنسان إذا نطق بهما في مواقف معينة. يبقى أن أهم ما علمتني اياه جامعتنا الحبيبة هي« professionalism». صحيح أننا نحوّلها الى موضوع للسخرية أحياناً، لكنها فعلاً صفة يمتاز بها معظم موظفي الجامعة. الاحترافية هي أن تعمل وتنتج مع أي شخص ولو كان مختلفاً عنك من دون أن تختلف معه. أن تنسج معه صداقات تتخطى أسوار الجامعة. وهذا ما تفتقده معظم المؤسسات الرسمية والخاصة في هذا البلد.
بعد تفجير مبنى College Hall بسيارة مفخخة في حرم الجامعة سنة 1991، واستشهاد الموظف منير صالحة تحت الردم وتضرّر المكتبة، اتصل زميل لي في المستشفى وكان من المخضرمين بمديرة قسم التمريض، السيدة غلاديس مورو وهي أميركية –لبنانية. قال لها منفعلاً وبكل صدق: «أنا أريد التبرع بمعاشي هذا الشهر للمساهمة في إعادة بناء الكولج هول».
لا خوف على الجامعة.
* روائي لبناني.