ثقافة وفنون

هنا في اللاذقيّة تصحو الكمنجات!

 

} مصطفى بدوي

أول قطرة تنزّ بها شفاه الحبق، فيموج الندى بنهود المجاز وهي تشقّ قمصان الفرات الذي تفسح له الروابيخاشعةسجاجيدها الفضيّة كي يمرّ على مرأى الإله الذي أرسل الشعراء ليبلوهم بالضفة الأخرى للزمن، حيث جلجامش يتعقّب ريش الخلود بين أجراف الفرات: الرحم الجوهري لسلسبيل القصيدة ..!

وحدها القصيدة كانت تنير شعاب الروح، وهي تنفذ إلى المعابر الرمزيّة للجج الماء المحروسة بشهوة النوارس المنذورة لاشتعال البروق وامتصاص الأزمنة.

وبين الإمعان في أخاديد الزمن وجلال الفرات، يضطرم الرعد في أحراش القلب.. لينهض النعناع في أحشاء الخيال تنبعث هوادج العطر طالعة من الخضرة الممهورة بالعنب، وترى قطعان الموج تساق باتجاه شواطئ موصولة بأثير العشب الفواح وأناقة أعياد الشذى ..

ومن معاطف اللاذقيّات تندلق الزغاريد مهتاجة من شلالات السحر الساكن في فراشات الجسد.. الجسد الذي تسرح الريح له شعره الأهوج المسروق من سوالف الحلم وألواح أوغاريت، الجسد الممشوق بمهارة العذوبة وأنامل الخدر المغسول بحليب البهاء، السكران بدنان الاخضرار..

وعبر المجاري العميقة للحواس تنسكب آبار من زخات الاستعارات الخصيبة، ولفحات الأعاصير الأنثوية التي تبلل أصابع الهواء برذاذها الأسطوري وكواسرها الكاسرة!

 أدخل بعينين نصف مفتوحتين إلى ممرات الشرود المريع .. فهنا: لست بحاجة للصعود كثيراً إلى أعماق التجنيح، لتتهاوى في فصل فردوسي من الانخطاف الذي يحيي القصائد وهي رميم.. ليسيّجك حصار الخوخ الفاره من كل مهب فسيح، وتتبرج لك المجازات معلنة هبوب النشيد وتذبح لك ثيران كاملة من نبيذ الياسمين!

هنا يذرف الأوكسجين كرنفالاً ملتهباً بجاذبية الحياة.. الحياة التي تتجاذبك فيها أرخبيلات الغرق ونيازك الخلود، فتختلس البرق من معاطف الغيوم، وتتأبط خفاً طرياً من عرق الرهبة، لتقترف العبور إلى مدى منفلت من الأسيجة.. حتى لتصل مفعماً برمزية الأمكنة، كي تجابه في الدواخل كل التقاويم الموحشة!

هنا في اللاذقية وحدها تصحو الكمنجات الخفيّة في الدم الملتاع للروح، لتبني أعشاشها في مسكن هارموني خلف الأعطاب على وقع خوابي العرق الريان..

هنا معجم اللوز ينساب ملتبساً برضاب الحرير، والبحر يشرع صدره لنداءات الألق..

ماذا تبقى لمباهج الحبر كي يحظى شطرنج المجاز بنياشين القصيدة؟ ومدمنو الأيروتيكا بآباط الصبايا الحليقات؟ ماذا لو يذرف الحلم ما عنده من قمر «الرقّة» وقهقهات «اللازورد»؟

آه يا نرجيلة الليل قرب أسوار «الرصافة» و»كرم اللولو» في رأس الشمراء…! آه من قداسة قاسيون وهو يحرس أميرات الشآم في منامهن الوثير، حيث تنزلق الفراشات لوزاً.. فلوزاً على شراشف العطور! وترسي الفخاخ كمائنها في ضواحي الوجد والديجور !!

غيمتان تحفان أرائك الصخب الداخلي.. هكذا كان أو هكذا سوف يكون.. هذا النشيد الخلاسيّ الذي يشبه أرض الخيال المجلل بفواكه الهذيان.. هكذا يغسل التاريخ ألواحه والشعر أنفاسه في شام الضلوع.. أو.. أو.. هكذا يجتبي القلب هندسة المكان..!!

*ناقد وشاعر مغربي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى