جامع آيا صوفيا حصان أردوغان الإسلاميّ والدولي!
} د. وفيق إبراهيم
يعلن الرئيس التركي رجب أردوغان الحرب على ليبرالية تركيا، والأوروبيين والكنائس العالمية والخليج بمواكبة مصر لاستحضار عثمانية قديمة يأمل منها تطويبه سلطاناً على العالم الإسلامي وسيداً للبحر المتوسط، بما يكتنزه من ثروات في باطن مياهه وأراضي دولته ومطالباً شرعياً بمقعد للمسلمين في مجلس الأمن الدولي.
هذا هو أردوغان الذي يعتمد على آليات سياسية وعسكرية لتنفيذ مشروعه، وأولها عضوية تركيا في الحلف الأطلسي الذي يشكل تحالفاً أميركياً – أوروبياً للسيطرة على العالم، إلى جانب الهدنة الجديدة التي أنشأتها الحاجات المتبادلة لروسيا وتركيا في سورية وأنتجت أنبوب غاز ضخماً ترسله موسكو عبر البحر الأسود إلى أنقرة وعبرها إلى أوروبا، كما أن الصين ليست بعيدة عن خط الجذب التركي لكنها منشغلة حالياً بإيران من دون أن تنسى تركيا.
لا بد من التذكير بأن الأتراك يمتلكون أقوى جيش بري في الحلف الأطلسي بعد الأميركي، وهم الأقوى أيضاً في محيطهم السوري – العراقي – الكردي – اليوناني – البلغاري الأرميني والقبرصي والأذربيجاني، ولديهم أقليات من ذوي أصول تركمانية تنتشر في سورية ولبنان والعراق وليبيا ومصر وتونس والصومال وجيبوتي، يربطونها بهم بعوامل تاريخية واقتصادية ولا تزال حتى اليوم تشكل آليات للخلفيات العثمانية للأتراك المعاصرين.
هناك عوامل أقوى للسياسة الأردوغانية تتعلق بفدرالية الأخوان المسلمين، خصوصاً في العالم الإسلامي التي تجعل حزب أردوغان الإخواني «العدالة والتنمية» التركي رأس الإخوان في كل مكان ومحرّكهم في كل الاتجاهات.
بذلك يستفيد الأتراك من البيولوجيا بربط التركمان بهم والإيدلوجيا التي تبيح لهم قيادة الإخوان المسلمين. كما يقدّم لهم النفوذ الأميركي – الأطلسي حركة مغطاة بكل الاتجاهات، فحتى لو غضبت أوروبا من طيش أردوغان فإن اعتراضها لا يخرج من أدب الانتقاد السياسي في بيانات ورقية قد لا يقرأها الإعلام التلفزيوني لأثرها الركيك.
هذه الأسباب سمحت لتركيا باحتلال ثلث قبرص ذي الأكثرية التركية من 1974، علماً أن قبرص بلد أوروبي.
وأتاحت لأردوغان ضرب الأكراد في بلاده وسط صمت دولي، واحتلال الغرب والشمال السوريين وقسم من شمالي العراق وغرب ليبيا، وبعض أنحاء مأرب وحضرموت في اليمن، وتعمل على السيطرة على مياه البحر الأبيض المتوسط وسواحل بلدانه.
إلا أن هذه العناصر القوية، لم تشبع أردوغان الذي استغل الحصار الأميركي على إيران للانتفاع من محدودية حركتها خارج الشرق الأوسط.
فها هو اليوم يفتعل مسرحية تثير الغرائز، ولا تنفعهُ على مستوى وظيفتها المباشرة.
ويقدم على تحويل متحف «آيا صوفيا» إلى جامع علماً، أن بلاده تركيا تزخر بآلاف المساجد والمصليات، بما يؤكد أن هذا التحويل ليس لأسباب تتعلق بضيق سعة المساجد التركية أمام المصلين.
للإشارة فإن متحف آيا صوفيا كان كنيسة بيزنطية تحوّلت بعد الفتوحات العثمانية في مرحلة السلطان محمد الفاتح جامعاً، إلا أن أب الدولة التركية الحديثة أتاتورك، قرّر في عشرينيات القرن الماضي جعله متحفاً مباحاً، والمعروف أن أتاتورك هو الذي نقل تركيا إلى جمهورية ليبرالية، تشكّل أحزابها الوطنية مركز الثقل إلى جانب قوى إسلاميّة على منوال حزب العدالة والتنمية.
هذا ما يشجع على اعتبار حركة أردوغان انتصاراً للمفهوم العثماني – السلطاني لمحمد الفاتح على حساب تراجع ليبرالية أتاتورك، وقد يدفعها نحو إعادة إنتاج نظام يجمع بين الليبرالية المخففة للزوم جذب الغرب والأطلسي وروسيا وإسلامية لضرورات إحياء الأبعاد العثمانية وتسهيل قيادة العالم الإسلامي.
حتى الآن لا تظهر اعتراضات كبرى على تحويل آيا صوفيا جامعاً.
القبارصة واليونانيون والمسيحيون العرب يطلقون بيانات خجولة، معتمدين على أوروبا والفاتيكان، أم البلدان الأوروبية فتطلق صرخات قوية على أمل تسخير الموقف الدولي في وجه أردوغان.
كذلك فإن روسيا تكتفي بإدانة صديقها أردوغان لاحتواء نغمة كنيستها التي تعتبر آيا صوفيا كنيسة أرثوذكسية، وهناك أيضاً أصوات أميركية من الحزب الديمقراطي تدين أردوغان إلى جانب أصوات من الكنائس الإنجيلية والكاثوليكية والأرثوذكسية.
كذلك فإن دول الخليج تطلق أصواتاً خافتة لا يفهم من يستمع إليها إذا كانت تستهدف السياسيات العامة لأردوغان أم موضوع آيا صوفيا.
أما جامعة الدول العربية فتبدو كأنها موجودة في المريخ تصل همهمتها إلى الأرض وكأنها زقزقة عصافير.
هناك أيضاً «إسرائيل» التي تصمت لعلها تحول المسجد الأقصى إلى هيكل سليمان.
لماذا يغامر أردوغان بتأليب القوى العالمية على سياساته؟
لديه أهداف داخلية تتعلق بضرورة إعادة شحن قوته للإسلاموية التركية في وجه الأحزاب الوطنية والكردية. وهذا يعزز من الزعامة الحصرية والدائمة لأردوغان.
أما السبب الثاني فله ارتباطات بالأبعاد العثمانية للرئيس التركي، الذي بدأ باحتلال أراضٍ من معظم الدول العربية المجاورة له وحتى البعيدة مثل اليمن وليبيا، وله أدوار سياسية قوية في مصر وتونس وشمالي لبنان ووسط العراق والسودان.
هناك سبب ثالث كثير الأهمية، يريد بواسطته أردوغان قيادة العالم الإسلامي، متوهماً أن مثل خطوة آيا صوفيا تجعل منه رئيساً شجاعاً تؤمن شعوب العالم الإسلامي بشجاعته السحرية، بما يضعه في صراع مفتوح مع السعودية التي تعتبر أن هذه الزعامة ملكاً صرفاً لها بتفويض من الأميركيين.
لذلك فإن «آيا صوفيا» لن يؤدي إلى صراع كبير بين تركيا والغرب وروسيا، لكنه يذهب نحو تفجير صراعات واسعة بين آل سعود وأردوغان، يفرض على السعودية المزيد من الدعم للأكراد والأرمن والقبارصة، وقد تصل إلى حدود دعم الحشد الشعبي في العراق المناوئ للاحتلال التركي، والدولة السورية التي تتهيأ لمنازلة السلطان العثماني الجديد.
فالسعودية تعرف أن الحشد الشعبي وحزب الله والرئيس الأسد لا يزاحمونها على قيادة العالم الإسلامي.
لذلك قد تجد فيهم ما يؤدي إلى إرباك التقدم الأردوغاني الإسلامي.
ويبدو أن أردوغان يريد حصر صراعه بالسعودية مقابل حصر وظيفة الجامع بقسم من آيا صوفيا، وفتح الأقسام المتبقية أمام الزوار من كل الطوائف.
فهل ينجح أردوغان في تحقيق طموحاته؟
الواضح أن على روسيا وسورية عاتقين كبيرين ويستعدّان لنزع الورم من رأس سياسي تركي يريد إعادة التاريخ إلى ثلاثة قرون إلى الوراء.