الولايات المتّحدة تحت ركبة الشّرطي الأبيض
} د. أحمد الزين
لعلّها المرّة الأولى منذ عقود التي تنظر فيها دول العالم وشعوبه على امتداد الكرة الأرضيّة إلى الولايات المتّحدة فلا ترى فيها أكثر من دولة هشّة من الدّاخل فيها العنصريّة والفقر وضياع الحقوق بل فيها من كلّ المثالب التي ترفع الولايات المتّحدة، بجريرتها، سيف العقوبات على بقية دول العالم وشعوبه.. وفوق كل ذلك لا بل والأهمّ من كلّ ذلك أنّها بدت مهدّدة بما يتهدّد غالبيّة الدّول المصنّفة عالماً ثالثاً من حركات انفصاليّة، وحروب، ونزاعات قد تقود إلى التّقسيم والتّجزئة!
والحقيقة أنّ مقتل جورج فلويد الأسود تحت ركبة الشرطي الأميركي الأبيض على مرأى من زميل له واقف إلى جانبه يشاهد الجريمة دون أن يحرّك ساكناً ودون أن يرفّ له جفن.. قد أعاد إلى الأذهان تاريخ الحرب الأهليّة الأميركيّة بين عامي 1861 و 1865 التي قامت تحت شعارات عنصريّة على أساس اللون فكانت العبوديّة وكان الاتّجار بالبشر… وكأن لا مؤسّسات تحمي الإنسان ولا مساواة حقيقيّة ولا عدالة اجتماعيّة في هذه البلاد..
تحرّك الشعب الأميركي انتصاراً للدّم الأسود.. لكنّ أيّاً من المؤسّسات الدّوليّة لم تتحرّك لنصرته، ولم تتدخّل أيّ مؤسّسة حقوقيّة للمطالبة على سبيل المثال بمعاقبة ذلك الشّرطي الّذي نفّذ جريمته على مرأى من العالم أجمع.. وحدها الشّعوب تعاطفت… صرخت رافعة الصّوت ولا من يسمع..
والآن.. خفت هدير الاحتجاجات هناك، لكنّ أموراً كثيرة حصلت خلالها ينبغي ملاحظتها والبناء عليها..
لقد استطاعت منطقة في مدينة سياتل أن تشكّل حالة انفصاليّة فهل هذا عادي في بلد كالولايات المتّحدة؟
بدت بعض الولايات كنيويورك على سبيل المثال قريبة جدّاً من الانفصال مُظهرة بعض المعاندة في تطبيق قرارات الحكومة الاتّحاديّة ممثّلة بالرّئيس ترامب..
أسقطت تماثيل ذات رمزيّة بالنّسبة للأميركيين في مشهد يشبه إسقاط تمثال صدّام حسين في بغداد.. فهل من علاقة بين الحدثين؟ وهل من خيط يربط الأحداث على رقعة الشّطرنج الدّوليّة في لوحة سورياليّة لن يراها العالم إلا إذا اكتملت؟
بعض التّساؤلات مشروعة خاصّة أنّنا قد شهدنا في زمن ليس ببعيد (1991) تفكّك دولة لم تكن أقلّ عظمة وقوّة من الولايات المتّحدة هي الاتّحاد السّوفياتي، فهل يتكرّر المشهد في عهد رئيس أميركي معدّل الذكاء لديه لا يفوق معدل مراهق في الرابعة عشرة سنة حسب آخر التسريبات؟ وما هي رمزية إسقاط تماثيل القادة الذين أنهوا الحرب الأهلية الأميركية؟ وما هي رمزية إسقاط تمثال كربستوفر كولومبس؟
بالنسبة للولايات المتّحدة يبدو المشهد أكثر تعقيداً ممّا كان فترة الاتّحاد السّوفياتي.. لقد أعلن غورباتشوف في لحظة تاريخيّة الدّول التي كانت تابعة لهذا الاتّحاد دولاً مستقلة فكان التّفكّك هادئاً، لكنّ ذلك غير ممكن في دولة فدراليّة كالولايات المتّحدة مترامية الأطراف وفيها من التناقضات ما لا يمكن ضبطه في حال التّفكّك.. فيها السود والبيض، وفيها ذوي الأصول الأوروبية وذوي الأصول الآسيويّة وذوي الأصول الأفريقيّة… وفيها الرأسماليون فاحشو الثراء وفيها الفقراء المدقعون… فيها المسلمون والمسيحيون واليهود والملحدون… فيها من يدّعون أنّهم سكّان هذه الأرض وسواهم مهاجرون، وفيها الهنود الحمر سكّان أميركا الأصليّون وقد وقفوا في إحدى الولايات صارخين في وجه ترامب: أنت على أرض مغصوبة..
فمن يضبط إيقاع كلّ هذه التناقضات في حال ضعفت السلطة الاتّحاديّة في بلد كلّ فرد فيه يحمل السّلاح؟ وقد رأينا الأميركيين، وخاصة الذين ينادون بأميركا للعرق الأبيض، كيف تهافتوا على شراء الأسلحة خلال التظاهرات الأخيرة.. من يقدر على منع أيّ ولاية من الانفصال بشكل أحادي خاصّة أنّ كلّ ولاية بناء على النّظام الفدرالي المعتمد تمتلك استقلالاً داخلياً يتيح لها فرض قوانينها الخاصّة ولها شرطتها ونظامها القضائي المستقلّ؟ وماذا يحصل في حال قرّرت الحكومة الاتّحاديّة منع مثل هذا الانفصال؟
إنّ كلّ ما يحصل في العالم يشي بالتغيير الكبير، بدءاً من الصعود الصيني مروراً بالثبات الروسي، وصولاً إلى الصمود الإيراني وملامح صراع بريطاني أميركي.. قد لا تبدو الصورة إلى الآن مكتملة لكن هنالك بالتّأكيد لوحة عالميّة جديدة ترسَم وقد لا تكون ألوان الولايات المتّحدة هي الطّاغية فهنالك خطوط جديدة لا يمكن تجاهلها.. إلاّ أنّ الحديث عن تفكّك الولايات المتّحدة أمر لن يحصل إلاّ من الدّاخل.. ويبدو أنّ هنالك معطيات في هذا الصّدد قد لا تكون قريبة وقد لا تتبلور على أرض الواقع لكنّها موجودة وواضحة المعالم فهل ترسم يد القدر العالميّة صورة لعالم جديد تخوض فيه الولايات المتحدة حروباً داخليّة تنشب لأسباب عنصريّة نحن لا نتمنّى ذلك ولكن على الشّرطيّ الأبيض أن يزيح ركبته عن رقبة الولايات المتّحدة كما عليه أن يزيحها عن رقبة العالم أجمع.. بانتظار معطيات جديدة.. بانتظار اكتمال المشهد..