فاسيلي كولوتوشا… أكثر من ديبلوماسي
معن بشور
في المحطات الثلاث الأبرز من رحلته الديبلوماسية الطويلة في بلادنا كنا، الصديق ورفيق العمر الأخ بشارة مرهج، نلتقي كثيراً بالديبلوماسي السوفياتي الشاب فاسيلي كولوتوشا –الراحل عنا قبل أيام – ورفيقه الشاب أيضاً اندره فدوفين الذي أصبح في ما بعد ممثلاً لبلاده في الأونيسكو.
المحطة الأولى كانت في النصف الأول من سبعينيات القرن الفائت، وخصوصاً إبّان حرب تشرين 1973، حيث كنا نلتقي بشكل شبه يومي، حين كان كولوتوشا وزميله فدوفين يتردّدان على مقرات الأحزاب الوطنية والفصائل الفلسطينية للتداول في تطورات الاحداث، وكان لنا يومها نقاشات مطولة معه حول «مؤتمر جنيف»، و «البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية» وقناعاتنا بانّ التسوية مع الكيان الغاصب مستحيلة في ظلّ موازين القوى السائدة آنذاك، وأنّ «عملية السلام» لن تكون أكثر من غطاء لتفجير الحروب بين العرب أنفسهم، بين أقطارهم وداخل كلّ قطر…
المحطة الثانية كانت في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي، وتحديداً بعد الحرب الإسرائيلية الكبرى 1982 (نسمّيها حرباً وليست اجتياحاً)، حيث كان كولوتوشا سفيراً لبلاده في دمشق، وكان يُطمئنني في كلّ زيارة لي ‘لى العاصمة السورية انّ الرئيس السوفياتي آنذاك الراحل يوري أندروبوف مصمّم على دعم سورية لاستعادة خسائرها الكبيرة التي مُنيت بها خلال الحرب في لبنان، وانّ المنطقة ستدخل مرحلة جديدة، وانّ اتفاق 17 أيار المشؤوم سيسقط بفعل تلاحم كفاحي لبناني – سوري – فلسطيني ودعم سوفياتي…
أما المحطة الثالثة فكانت بعد توليه سفارة بلاده في لبنان في أواسط الثمانينيات، وتحديداً بعد حادثة خطف الرهائن السوفيات الأربع التي لعب كولوتوشا دوراً مهماً في إنهائها والإفراج عنهم رغم وجوده في دمشق، وربما كان نقله الى بيروت ثمرة تلك الجهود…
في بيروت، تولى كولوتوشا سفارة موسكو بعد عملاقين من عمالقة الديبلوماسية السوفياتية، سلطانوف وسولداتوف، وفي ظلّ تحديات لبنانية «عملاقة»، تمثلت باشتداد الحرب الداخلية، بين اللبنانيين، وداخل كلّ فريق منهم، وبين بعضهم والفلسطينيين، وبين بعضهم والسوريين إما مباشرة او بالوكالة، فنجح الديبلوماسي الشاب على مدى اربع سنوات في ان ينتزع لنفسه مكانة مميّزة في الحياة السياسية اللبنانية، وفي الديبلوماسية الروسية بعدها حيث ارتقى في مدارجها الى أعلى المراتب… وهو دور مماثل لدور السفير الحالي ألكسندر زاسبيكين منذ أكثر من عشر سنوات.
ليس الهدف من هذه العجالة استعادة محطات من تجربة السفير الراحل الغنية، وقد تولى سردها بنفسه في مذكرات كتبها، وفي إطلالات تلفزيونية شارك فيها، بل هو أيضا لتسليط الأضواء على الشروط التي ينبغي ان تتوفر في أي ديبلوماسي لكي ينجح في مهمته…
اول هذه الشروط دون شك ان يسعى لخدمة مصالح بلاده، وثانيها أن يخدم بلاده من خلال الفهم العميق لخصوصية كلّ دولة ومجتمع يعمل فيه، ولتضاريسه السياسية، ولهواجسه التاريخية، ولأمانيه الوطنية، لأنّ ديبلوماسياً لا يدرك هذه الحقائق ويحترمها لا يستطيع ان يخدم مصالح بلاده…
من هنا، فقد كان سر نجاح كولوتوشا في تلك الأيام، ونجاح نظرائه فيما بعد، هو إدراكه لموقع القضية الفلسطينية في حياة امتنا، كما لإدراكه أهمية الحرص على الوحدة الوطنية داخل كل قطر…
لذلك ما بقي في الذاكرة من صورة هذا الديبلوماسي المميّز أمران: أولهما تعلقه بفلسطين قضية وشعباً ومقاومة ضمن ما تسمح به سياسة بلاده، وثانيهما دوره في العمل لإنجاز مصالحة وطنية في لبنان إدراكاً منه ان قوة لبنان في وحدته وتكامل مكوناته ومقاومة أعدائه.
تعرّض كولوتوشا خلال عمله لأكثر من حملة، بل لأكثر من تهديد، ذلك انّ كلا من الأطراف المعنية في الازمة اللبنانية كان يريده منحازاً الى جانبه في صراعه مع الآخر، فيما كان هو يعتقد انّ عليه ان يكون جسراً بين اللبنانيين فينحاز اليهم جميعاً، ويسهم في حلّ مشاكلهم…