«حياديّة» البطريرك و«مدنيّة» المفتي والناس جياع…!
} د. وفيق إبراهيم
صمت أهل الدين دهراً طويلاً مفاسد أهل السياسة حتى انهارت البلاد وجاع العباد، ونطقوا شعراً في زمن يتطلّب قراءة علمية في ما يحتاج إليه اللبنانيون من سياسة وطنية تحفظهم في بلدهم مع نظام اقتصاديّ يطيل أعمارهم ببركات الاستيراد الممكن وأهل الدين.
هذه مقدّمة رسالة لأصحاب الغبطة والسماحة كي يرأفوا بالدنيا، التي تشكل في العمق رعاياهم من الناس وعلاقة هؤلاء بالسياسة من جهة وتأثير الغيب عليهم من جهة أخرى.
لذلك فلبنان الآن في قعر بئر سحيقة يرى في أعلى فوهتها اختفاء السلم الذي يستطيع بواسطته الخروج إلى الضوء الاقتصادي – السياسي، فيما تُلّوح له في الأعلى أيضاً اقتراحات بأن خروجه من البئر يتطلب حسب المفتي الجعفري الممتاز أحمد قبلان قبولاً بمدنية الدولة، وسط منافسة من بيرق آخر برفعه الكاردينال الماروني بشارة الراعي يطرح حيادية لبنان الذي كان سويسرا الشرق، على حد تعبيره.
هناك مشهد ثالث لانهيار اقتصادي ساحق يؤسس لتدمير كامل الدولة وصولاً إلى تفجير الكيان السياسي نفسه.
المشهد الرابع هو سلاح حزب الله الذي لا يتميّز بدوره الاقتصادي إنما بدوره الوطني داخلياً وإقليمياً.
فعندما عجزت حيادية لبنان في زمن سويسرا الشرق عن وقف الاحتلال الإسرائيلي للبنان، وصولاً إلى عاصمته بيروت، كان السلاح الوطني هو الوسيلة الوحيدة للمحافظة على لبنان الحياة، وعندما احتلّ الإسرائيليون الجنوب 18 سنة متواصلة حتى العام 2000، لم يطردهم من هذه المنطقة إلا سلاح حزب الله.
كما أن هذا السلاح نفسه هو الذي ردع العدوان الإسرائيلي على لبنان في العام 2006.
للمزيد من التوضيح، فإن أهل هذا السلاح أسرعوا لمحاربة الإرهاب في مدى سوري – لبناني عندما استشعروا خطراً على الاجتماع السوري – اللبناني – العربي، بكل فئاته وألوانه.
ويقاتلون حتى اليوم في أنحاء سورية والعصيّ من جرود لبنان، منظمات إرهابية هي الأخطر من نوعها.
لذلك ما كان ممكناً على هذا السلاح أن يكون حيادياً في تلك المرحلة، أو ساعياً وراء تركيب دولة مدنية في لبنان، لأن مصدر الخطر كان يشمل كل الوطن بكيانه ودولته ونظامه السياسي وشعبه.
ولم يكن هناك وقت كافٍ للاهتمام بمشاريع تغيير فعلية في التفاعلات السياسية الداخلية.
بالمقابل كانت الطبقة السياسية الداخلية تمسك بالنظام السياسي بمختلف إداراته وأمواله حتى الخنق الكامل وسط تغطية من الإقليم الخليجي والعربي والخارج الأميركي – الأوروبي.
فتشكلت أكبر عمليات سرقة متواصلة لثلاثين عاماً الأخيرة، وكان التقاطع في حينه بين النظام السياسي والقيادات الدينية عميقاً إلى درجة أن مفتيين يمنعون التغيير والإدانة مهما كانت تافهة ويرسمون خطوطاً حمراء حول استهداف أي فاسد، كذلك فإن تغيير أي موظف من كبار الفاسدين لا يزال يلقى رفضاً من أهل الكهنوت والحريرية السياسية والسفيرة الأميركية. هذا إلى جانب استعانة الدين بالزعماء السياسيين كي يستطيع مثلاً مفتٍ تولي منصب ديني كبير وتوريث ابنه كمفتٍ على طائفته.
هذه أمثلة بسيطة على العلاقات الحميمة عند كل المذاهب والطوائف بين قياداتها السياسية والدينية التي لا تزال حتى اليوم تؤمن التغطيات لبعضها بعضاً.
لكنها تفعل كحال بعض السياسيين الذين تركوا المركب السياسي القابل للغرق كي لا يتحملوا مسؤولية استقراره في أعماق الهاوية، وهم ينتظرون الآن إنقاذ المركب بواسطة حكومة حسان دياب للعودة إلى رئاسة الحكومة وعضويتها، وهذا من عجائب الأمور.
لكن ما طرحه الكاردينال الراعي والمفتي قبلان، هي من الأمور المطلوبة بقوة لأن حياد لبنان ضروري لنيله مساعدات دولية.
لكن نسأل عن اتجاهات هذا الحياد؟
فإذا كان بين الصين والأميركيين، يكفي قولاً أن الصينيين اشتروا 3 تريليونات دولار سندات خزينة أميركية، ولديهم علاقات مع الأسواق الأميركية تتعدى 250 مليار دولار سنوياً.
فكيف يجيز الأميركيون لأنفسهم ما يمنعونه عن لبنان؟
وكيف لا يقبل الأميركيون بتجهيز الجيش اللبناني إلى حدود تسمح له بأداء أدوار وطنية، ويمنعون على لبنان التوجّه إلى أسواق السلاح الروسي؟
وما المانع من التعامل مع إيران بالليرة اللبنانية على مستوى استيراد مشتقات النفط والأدوية والسلع؟
فإيران متحالفة مع أقوى بنية سياسية لبنانية هي حزب الله، ولن يزيد عليها شيئاً إذا صدرت إلى لبنان أو لم تصدر إليه، وكذلك فإن دول العراق والكويت وقطر مستعدة لإغاثة لبنان لكن الأميركيين لا يقبلون.
وهذا يؤكد أن الحياد الذي يطالب به الكاردينال منطقي جداً، إلا أنه لا يتطابق مع السياسة الأميركية في لبنان التي تريد ربط لبنان بها، واستعماله للضغط على الجوار ورميه لقمة سائغة أمام «إسرائيل». وهذا ما تنبه إليه الراعي الذي أكد أن حياديته لا تشمل الكيان الإسرائيلي.
كما أن الكاردينال لم يقبل، وهذه دراية كبيرة منه بمحاولات الحريري والمشنوق والسنيورة وجعجع والجميل بتحويل اقتراحه حول حياد لبنان إلى حلف سياسي معادٍ للقوى السياسية في المقلب اللبناني الآخر.
وذلك في محاولة دقيقة منه لمنع الانقسام الوطني.
وهناك معوقات إضافية أمام اقتراح المفتي ومبادرة الكاردينال، فمشروع الدولة الوطنية يشترط إلغاء للدور السياسي للمواقع الدينية، وهذا لا يبدو أن المفتيين والبطاركة والمطارنة بصدد تبنّيه، فهم لا يقبلون وقواهم السياسية المرتبطة ترفض بعنف.
كما أن الحيادية التي يطرحها الكاردينال لا تقبل بها قوى 14 آذار إلا على أساس الارتباط مع السياسة الأميركية – الخليجية، في حين أن مبادرة الراعي تسعى فعلياً لحياد لبنان عن لعبة المحاور الدولية والعربية في إطار من التفاعل الإيجابي مع الخارج لإنقاذ لبنان.
وكان كثيرون يتمنون لو أضاف الكاردينال والمفتي فرماناً بإعلان سقوط هذه الطبقة السياسية التي دمّرت لبنان ولا تزال تنهش أطلاله وسط صمت تام من الدين والدنيا وتصفيق كبير من الإقليم والخارج.